لعله أبرز الأفلام العالمية في طرح كل تلك القضايا، كما أنه بات أولها من حيث الإيرادات المهولة وغير المسبوقة التي حققها خلال مدّة عرضه، التي تجاوزت الشهر بأيام، في دور السينما على مستوى العالم.
إنه فيلم «أفاتار» للمخرج الأميركي الكندي الأصل «جيمس كاميرون»، الذي استغرق في صناعته السنوات السبع الأخيرة، ومن قبلها خمس سنوات أخرى ظل خلالها يبحث عن «فكرة مختلفة» لفيلمه الجديد. فقد أراد «كاميرون» أن يبهر العالم بتحفة سينمائية فريدة، بعدما أبهره قبل سنوات بفيلمه «تايتانيك» الذي حقق وقتها أيضاً أعلى الإيرادات. فماذا فعل كاميرون..؟
النظرة الأولية إلى الفيلم ستجعله يبدو وكأنه «فيلم عادي»، وربما يناسب الأطفال والشباب أكثر من مناسبته لأي مشاهد آخر. فالحدوتة «تقليدية» رأيناها أكثر من مرّة في السينما الأميركية، خصوصاً في أفلام الأكشن.. فهي تدور عن انقلاب أحد ضباط مشاة البحرية الأميركية «المارينز» على الجيش الاستعماري الذي جاء معه، وذلك بانضمامه إلى جيوش العدو. و«العدو» هنا مجرد قبيلة بدائية بسيطة جداً، لا تملك إلا السهام والخيول في حربها ضد «المستعمر» الذي جاء يحمل ترسانة مفزعة من الأسلحة الحديثة، من أجل القضاء عليها واستنزاف خيراتها. وينتهي الفيلم بانتصار تلك القبيلة البدائية على كل هذه الترسانة المرعبة من الأسلحة الحديثة، بفضل مساعدة هذا الأميركي الذي دفعه ضميره للانقلاب على سياسات بلاده الاستعمارية.
«المستعمر» البغيض
ويستخدم الفيلم مكانين أساسيين للتصوير، أولهما: ديكور خاص بمركبة الفضاء الحربية الضخمة، وثانيهما: «الغابة» التي يسكنها سكان قبيلة «النابي».. إضافة إلى مشاهد التحليق في الجو بالطائرات والصواريخ وطيور «الرخ» الأسطورية الجارحة. والمشاهد التي تم تصويرها داخل مركبة الفضاء، التي تخص تجهيزات جيش «المارينز» بعلمائه وضباطه، هي مشاهد واقعية تم تصويرها بممثلين بشر عاديين، بينما تم استخدام تكنولوجيا الـ(3D) بتطبيقاتها المختلفة، أي أن الكمبيوتر هو المسؤول عن صناعة الجزء الأكبر من الفيلم، بدايةً من تحديد أشكال شخصيات «الحدوتة» ورسم أبعادها الثلاثية، سواء كانت تلك الشخصيات لبشر هم سكان «قبيلة النابي»، أو لحيوانات الغابة وأشجارها وجبالها وفضائها المتسع.
كما أن صناعة الفيلم بطريقة الـ 3D يجعل مشاهدته مُحببة للأطفال قبل الكبار، إذاً فهو موجه بشكل أساسي للفئة العمرية من (12 إلى 25) سنة، ومن هم فوق ذلك قد يروق لهم الفيلم.. وقد لا يعجبهم على الإطلاق.
إذاً، لماذا كل هذه الضجة المثارة عن «أفاتار»، لدرجة وصفه بأنه «فيلم القرن» والفيلم «الأهم» في تاريخ السينما، والفيلم «المعجزة» و.. الخ..؟!
ربما تكمن الإجابة في تلك القضايا التي يثيرها الفيلم، والتي من أهمها وجود أصوات معارضة للنظام الأميركي بسياساته الاستعمارية المختلفة، وتحديداً في ظل حكم «جورج بوش الابن» من داخل النظام الأميركي نفسه. وربما لم تكن تلك الأصوات فاعلة بالقدر الكافي آنذاك، لكن ذلك لا ينفي وجودها.. كما أنه على الرغم من وجودها، فلا تزال أميركا تحتل أجزاءً كثيرة من العالم، من دون أن يخرج من بين صفوف جيشها هذا البطل «أفاتار»، أو جيك سولي، ليقف في وجه جيشه «الاستعماري».
لقد ظهرت أميركا في هذا الفيلم بصورة «المستعمر» و«المُخلّص» في آنٍ واحد، ربما تخلّت عن صورة «المُخلّص الأميركي» فقط الذي تنتخبه الظروف دوماً لإنقاذ الأرض من الكوارث، لكنها تصرح في هذا الفيلم بأن أميركا فيها «داء» الاستعمار و«دواء» المُخلّص في تركيبة سحرية واحدة!
سينما المستقبل
هناك قضايا أخرى تشير بقوّة لأهمية الفيلم، وهي تلك المتمثلة في «سينما الخيال العلمي». فالفيلم يُقدم للمشاهد أمكنة وأزمنة بشكل افتراضي مصنوع بدقة عالية، يمكنك أن تعايشه بفضل كاميرات المشاهدة الخاصة المُجسمة للحدث.. وكأنك بداخله، تشعر بحركته، بروائحه، بأخطاره، بضربات قلب أبطاله.. وهذا ما دعا البعض لأن يقول إن «سينما الخيال العلمي» المُصورة بتقنية الـ(3D) هي «سينما المستقبل» في القرن الجديد، وهذه افتراضية غير صحيحة.. فما ينتج في أميركا من أفلام الخيال العلمي قليل جداً، لا يتجاوز الـ(5%) من إجمالي ما تنتجه السينما الأميركية.
يقودنا هذا إلى الوصول للنقطة الرئيسة وراء تلك الضجة المثارة عن الفيلم، والخاصة بالإيرادات التي تجاوزت المليار والـ(800) مليون دولار، في أقل من ثمانية أسابيع في دور السينما المختلفة بالعالم، منها (40) ألف دار عرض سينمائي في أميركا وحدها. فحسب شركة التوزيع السينمائي «فوكس للقرن العشرين»، فإن «أفاتار» تفوق على فيلم «تايتانيك»، الذي أنتج نهاية العام (1997)، كصاحب أعلى عوائد في تاريخ السينما العالمية، إذ حقق الفيلم (1,859) مليار دولار، بعد إيرادات يوم الإثنين 25 يناير (كانون الثاني)، لتتجاوز تلك الحصيلة إيرادات فيلم «تايتانيك» التي بلغت (1,843) مليار دولار خلال العامين
(1997 و1998).
هذه النقطة بالأساس هي التي صنعت للفيلم كل تلك الأهمية، رغم عادية الطرح الفكري فيه. فإبهار الشكل هو العامل الجاذب، وكاميرات المشاهدة تؤدي هي الأخرى عاملاً مهمّاً، وخطابه الموجه ضد أميركا ساعد أيضاً على ذلك. أضف إلى كل هذا «الدعاية الضخمة» للفيلم، والتي تكلفت وحدها (150) مليون دولار.. أُضيفت إلى ما يزيد على الـ(250) مليوناً أخرى هي تكلفة الفيلم الإنتاجية.
كل تلك العوامل تضافرت معاً، لتصنع أسطورة الفيلم الأميركي «أفاتار»، التي تقف وراءه أسطورة أخرى هي «أميركا» نفسها.
تاريخ النشر : 2010-02-02