سكان مدن المقابر في مصر أكثر من نصف مليون

يخطئ من يظن أن مشوار حياة الإنسان ينتهي إلى المقبرة!! فهناك من يبدؤون حياتهم من المقابر.. يولدون على أبوابها ويمرحون حول شواهدها حتى يكبروا، ويقضوا اشهر العسل فوق أرضها، وهم يعلمون علم اليقين أنها تضم جثثاً حديثة الدفن أو رفاتاً مضت عليها سنوات وسنوات..

يخطئ أيضاً من يظن أن ساكني القبور
- الأحياء حيث محل الموتى- بؤساء ويائسون وضائعون، يندبون حظهم كل يوم فزيارة «أوان» الميدانية لهم في مقابر الغفير بالقاهرة، وحواراتنا مع معظمهم أثبتت لنا أنهم أبطال تحدوا ظروفهم الصعبة وتعلموا وتخرجوا في كليات قمة وعملوا وكونوا أسراً.

لم ينحرفوا.. لم يفكروا في الانتحار لم يقيموا الدنيا ويقعدوها لأنهم فشلوا في توفير نفقات رحلة حول العالم أو قضاء المصيف على سواحل أسبانيا أو جزر الباهاما!

تبدأ حكاية السكن في المقابر باستئذان كبير العائلة التي تملك المقبرة.. وعادة ما يسمح هذا الكبير لشخص مسكين لا يجد سكناً أو حتى لزوج وزوجة بالسكنى، على أن يرعى من يسكن تنظيف فناء المقبرة، والغرف المخصصة لمن يزورون موتاهم بالإضافة لرعاية النباتات المزروعة حول المقبرة.. وبطبيعة الحال تتكون الأسرة من الزوج والزوجة اللذين سكنا المقبرة أو يتزوج من كان بلا مأوى ويأتي بزوجته إلى الحوش كبيت للزوجية يقام العرس وتولد الذرية ويبقى الوضع على ما هو عليه لسنوات وسنوات حتى يأمر صاحب المكان بطرد السكان، وإعادتهم للشارع مرة أخرى. ساعتها يتم التنفيذ بالقوة الجبرية.. لكن لم تحدث عملية الطرد إلا نادرا،ً عندما يحتاج صاحب المقبرة أن يتوسع في المكان المخصص لدفن الموتى على حساب المكان المخصص لزوارهم.

نهار شتوي

في نهار شتوي بارد اتجهنا إلى منطقة السيدة عائشة على طريق صلاح سالم، ومن هناك دلفنا إلى شوارع ضيقة مقسمة تقسيماً هندسياً متوازياً.. كان الصغار كالعادة يلعبون كرة القدم في الطرق الترابية، وبعض النسوة يجلسن أمام المقابر يجهزن الخضار للغداء، بينما عدة سيارات تقف وقد نزل أصحابها لتوديع ميت توفاه الله قبل ساعات. استأذنا إحداهن في الحديث معها ومع عائلتها، فاستأذنت بدورها رجلها وجاءنا عم شلبي (50 عاما) مرحباً بالحديث.. حكى عن نفسه فقال إنه تزوج في فناء المقبرة ولديه ثلاث بنات أنجبهن كلهن في نفس المكان، إحدى بناته تزوجت ولكنها لم تسكن معه سكنت مقبرة أخرى، والثانية طالبة في المرحلة الإعدادية، والثالثة طفلة عمرها عام ونصف العام.

المدهش أن عم شلبي محمد سعيد ولد في فناء مقبرة أيضاً في مواجهة الفناء الذي يسكنه الآن وقضى طفولته بجوار شواهد القبور وصرخات المعزّين، ويأمل عم شلبي أن تتخرج ابنته الوسطى في الجامعة، ويكون لها شأن كبير فهي ذكية ومجتهدة على حد قوله وطموحها يسبق أحلامه في مستقبلها..

ويخبرنا شلبي بأن صاحب المدفن لا بد عندما يأتي أن يجد كل شيء نظيفاً حوله وفي أيام المواسم والأعياد والجمع نتوقع زيارته وندخل كل أثاثنا المتناثر في الفناء إلى غرفة واحدة كي أغلق بابها على زوجتي وبناتي حتى لا يشعر أحد بوجودنا وتمضي الزيارة بالزائرين وينصرفون فنعود من جديد لحياتنا العادية..

هذه الحياة العادية التي يتحدث عم شلبي عنها لا يعكرها من وجهة نظره إلا خجل ابنتيه من السكن في المقابر فهما لا تخبران أحدًا عن حقيقة مسكنهما..

سألناه: لماذا لم يعترض على إقامة ابنته مع عريسها في مقبرة مجاورة؟ لماذا لم ينتظر حتى يتقدم لها عريس ينقلها إلى حياة أفضل؟ فقال: الزواج قسمة ونصيب وكما رضيت أم البنات بي وبالسكنى معي بجوار الأموات كان علي أن أرضى أنا أيضا بمن هو في نفس ظروفي.

الحديث مع العروس

طلبنا الحديث مع العروس.. ابنته صابرين فأرسل في دعوتها وعندما جاءت بشوشة كأنها القمر في منتصف الشهر سألناها عن يومها كيف تقضيه هنا.. قالت: عادي.. في الصباح أركب أي وسيلة مواصلات للذهاب إلى السوق، أشتري متطلبات البيت أعود لأطبخ وأنظف الحوش- الفناء المحيط بالمقبرة- لكن المشكلة أني مضطرة للغسيل في المساء فقط لأن خط المياه مسروق من الحكومة وليس هناك صرف صحي وطبعاً دخول الحمام مشكلة أخرى.. فهو بعيد عن الحوش ويخدم حوالي خمسين عائلة أخرى غيرنا..

{ ماذا حدث عندما تقدم عريسك لطلب يدك؟

- الحقيقة والدي رفضه في البداية وقال لا يمكن ابنتي تعيد المشوار وتتزوج في المقابر لكني كنت أعرفه وأعرف أنه إنسان نبيل، ومكافح فصممت على الزواج منه.. ونتمنى أن ندخر ثمن غرفة خارج المنطقة وننتقل إليها قريباً خاصة أنه يعمل فترتين في معرض بلاستيك وحتى يحدث هذا أعيش أجمل أيام حياتي معه ودائماً أحافظ على غرفة نومنا لتبدو مشرقة في عينيه فأزينها بورق ملون وبمفارش وستائر وأرشها بالعطر أيضاً..

السؤال الذي نواجهه منذ جئنا المنطقة: ألا تخافين من النوم في فناء مقبرة وتحتك عظام ورفات وأحياناً جثث مدفونة للتو؟

قالت وهي تضحك كيف أخاف وحبيبي معي!

جرائم وجنايات

خرجنا إلى الطريق المترب مرة أخرى وقابلنا الحاج محمد بسيوني عبدالعزيز (65 سنة) وعرفنا منه أنه يسكن مع ستة عشر فرداً في فناء مقبرة.. هو وعائلتا ابنيه بالطبع لا يوجد أثاث يكفي هذا العدد.. والنوم كيفما اتفق والأولاد لا يذهبون إلى المدرسة لضيق ذات اليد والاستيقاظ على صراخ والنوم على صراخ من نوع مختلف! لكنها على حد قوله «ماشية» وأحسن من النوم في الشارع! زوجة أحد ابنيه اسمها عفيفة محمد (29سنة) تزوجت منذ 4 سنوات، وكانت تعيش في فناء مقبرة مجاورة.. زوجها «تربي» وقد اعتادت الحياة تماماً في هذا الطقس الجنائزي.. تشكو فقط من انتشار الثعابين ونزولها من السقف الخشبي عليهم أحياناً في الليل لكنها ليست ثعابين سامة وتعاملها الأسرة كما لو كانت فئرانا.. تقول: نسمع أصوات حركة على السقف فنضيء المصباح ونرى ثعباناً يهبط على الحائط!!

حمدي أكبر أبناء عم محمد خطب فتاة من خارج المنطقة ووعد أباها بتوفير شقة صغيرة ولذلك يعمل ليل نهار للوفاء بوعده أمام خطيبته. في النهار في المحاكم كمساعد محامٍ، وفي المساء في مكتب المحاماة، ويلفت حمدي نظرنا إلى أن الجرائم منتشرة بين سكان المقابر فمنذ أيام سمعنا صوت استغاثة من فتاة وعندما توجهنا لمصدر الصوت وجدنا مجموعة شباب يحاولون الاعتداء عليها.. تدخلت أنا وابن خالتي فكان نصيبنا الطعن بمطواة.. وقبل شهر عثر على جثة في الشارع الرئيسي وعثرت سيدة على طفلة عمرها يوم واحد ملقاة تصرخ من الجوع في الشارع كما أن هناك جرائم آداب ترتكب في بعض الأحواش المهجورة من السكان.

الرعب في ليلة الدفن

«أحمد حسن» طالب في الصف الثاني الثانوي يقول وأنا صغير كنت أخاف جداً من المقابر وكنت أحلم كثيراً أحلاماً مزعجة لكن الآن قل هذا الخوف لكن تظل ليلة دفن أي ميت مرعبة جداً لي ولا أنام ليلتها، وعموماً لا توجد مشكلة بالنهار لكن بالليل أشعر بالخوف وخصوصاً إذا غاب الأهل ولذلك أحياناً نتجمع أنا وأختي وأبناء الجيران أمام الحوش نشاهد التليفزيون كي نتسلى.. وعن طموحاته يقول أتمنى أن ألتحق بكلية الهندسة وأصبح مهندساً.

«شريف محمد» طالب بالصف الخامس الابتدائي يقول : أنا ولدت هنا وأعيش مع والدي ووالدتي وأخوتي وليس لنا بيت إلا هذا الحوش، لكن والدي يمنعني من اللعب في الحوش ولذلك ألعب مع أبناء الجيران في الجهة المقابلة.. وعندما تحدث عن الأحلام التي يحلم بها بالليل وهل يخاف من المقابر قال حلمت مرة بأني آكل فاكهة جميلة جداً ولكن فجأة وجدت في الحلم أن شخصاً يخرج من «التربة».. ويضيف أنه يتمنى أن يصبح ضابط شرطة وأن يسكن في عمارة كبيرة مثل التي يشاهدها في التليفزيون.

ناسها يعيشون تحت خط الفقر

في دراسة أجرتها الدكتورة فاتن عبد الفتاح الباحثة بمعهد الدراسات والبحوث البيئية جاء أن أهم ما يميز مجتمع ساكني المقابر أنه مجتمع صغير السن حيث يتركز أكثر من ثلث السكان في الفئة العمرية أقل من 15 سنة والنسبة التالية من حيث الكثافة في الفئات العمرية فوق 65 سنة، وأن عدد أفراد الأسرة يتراوح من 5 - 6 أفراد. وتؤكد الدراسة أن نحو 95% من ساكني المقابر يعيشون تحت خط الفقر مما يشير إلى أن تلك الأسر وأطفالهم محرومون من إشباع مختلف احتياجاتهم الضرورية.. كما أن 81% من الأسر تعيش في حوش مكون من غرفة واحدة أو غرفتين على الأكثر والمدافن تخلو من الخدمات الأساسية مثل المياه والكهرباء والصرف الصحي وهذا أدى إلى انتشار الأمراض بين القاطنين وخصوصاً الأطفال فهناك 17% من الأطفال مصابون بالإسهال، و24% من الأطفال دون السادسة مصابون بالسعال.. ويضم إسكان المقابر في القاهرة تجمعين كبيرين أحدهما يشمل مناطق الإمام الشافعي والإمام الليثي والتونسي والسيدة عائشة والسيدة نفيسة والخليفة وسيدي عقبة وسيدي عمر بن الفارض، أما التجمع الثاني فيضم مناطق باب الوزير والمجاورين والقرافة الشرقية وقايتباي والغفير..

وهناك حوالي 8 آلاف طفل يعيشون حياة كاملة وسط مقابر السيدة عائشة والإمام الشافعي والبساتين حسب تقرير للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء..

ولعل الفيلم التليفزيوني «أنا لا أكذب ولكني أتجمل» والذي قام ببطولته الفنان الراحل أحمد زكي مع الفنانة آثار الحكيم قد جسد بصورة رائعة حياة أحد أبناء ساكني المقابر المتفوقين الذي أحبته زميلته في الجامعة والمنتمية لطبقة اجتماعية راقية وكانت المصادفة هي التي ساقت والدها لمعرفة أصل هذا الشاب الذي تقدم لخطبتها ورغم حبها الشديد له إلا أنها لم تتحمل يوماً العيش في المقابر فبمجرد دخولها أصبحت هدفاً ثميناً للأطفال المتسولين من أبناء ساكني المقابر الذين خرج من بينهم حبيبها.

No comments

Powered by Blogger.