في الأسرة الصغيرة، حيث أقل حالات احتكاك الأبناء بغير الوالدين، تكون الوقاية من تعلّم السلوك الخاطئ سهلة، لكن ماذا عن مهارة التعامل مع الآخرين؟
وفي الأسر الكبيرة، حيث يصبح متاحاً للأبناء أن يتقنوا فن التواصل الاجتماعي، ويتعلموا من تجارب الآخرين الكثير، ماذا عن الممارسات السلبية التي يصبح تعلّمها متاحاً في الوقت ذاته؟
راشد، شاب وحيد في الرابعة عشرة من عمره، تربى وسط أمه وأبيه، يعيش بلا أصدقاء، ويفضل عدم الخروج من المنزل، حتى لا يجد من يضايقه بسبب إسراعه اللافت في مشيته و«تأتأة» كلامه، وفي إحدى عيادات الطب النفسي الخاصة، حيث يخضع للعلاج، يؤكد طبيبه أن حالة راشد سببها الرقابة الزائدة من أهله وخوفهم الشديد عليه، بعد أن جعلوه حبيس البيت، لا يخرج إلا معهم، ولا يحتك بأحد غيرهم، ما سبّب له مشاكل مع زملاء المدرسة، إلى أن انقطع عن الدراسة فترة طويلة، حالة راشد قد يصل إليها العديد من الأطفال الذين ينشأون وسط أسر صغيرة تتكون من الأب والأم والخادمة.
في البداية تقول أم هيثم، وهي سيدة تعمل مع زوجها في إحدى الشركات الخاصة صباحا ومساء، إن العمل يجعلهما مشغولين عن ابنهما الوحيد طوال اليوم، فلا يخرجون إلا في المناسبات، ولا يدعون ابنهم يخرج مع أحد، ويقضون يومهم في اتصالات مع الخادمة يعطون التعليمات التي لا يجوز الخروج عنها، الأمر الذي جعل ابنهم هيثم يعاني العزلة وعدم الثقة بأصدقائه، ويعيش على خلاف دائم معهم، وهذا جعل أهله يلجأون إلى الطب النفسي، الذي أكد لهم أن انعزال الابن عن المجتمع هو السبب ، وفي الجهة المقابلة حيث يعيش الأبناء وسط أسر كبيرة، نجد حالات لا تشبه حالة راشد، لكنها ليست أكثر توازنا.
أما «أم فيصل» التي تسكن مع أهل زوجها فتؤكد إيجابية احتكاك ابنها مع أبناء عمومته،وجدته وجده وأعمامه ويظل طوال الوقت تحت رقابتهم وفي رعايتهم وسط ضحكهم وتجمعهم وحكاياتهم، وتقول إنه يجيد التصرف مع أصدقائه، فلايشتكي من مشاكل في المدرسة، ويعتمد على نفسه في أمور حياته.
وتقول الاستشارية النفسية بمركز ثوابت للتنمية البشرية الدكتورة سعاد البشر إن الأبناء الذين يتربون وسط عائلة كبيرة وتسمى في علم النفس «الأسرة الممتدة» يحتكون من خلالها مع أبناء عمومتهم وأبناء أخوالهم، يختبرون تجارب أكثر، ومن ثم يكونون اجتماعيين وغير خائفين ممن حولهم، «فتجدهم غير مترددين في المواقف الصعبة، كما أن وجود الجد والجدة، وهما مصدر للحكمة والأمان للأطفال، يمنح الطفل ملجأ للهرب إليه من ضغوط والديه، فيجد التوعية والتعليمات السليمة التي من شأنها بناء الأطفال على تربية سليمة تجعلهم يتخذونها منهجا لهم في حياتهم».
وأضافت د.البشر: «في الأسرة الصغيرة وتسمى «الأسرة النووية» يضع الأبوان ابنهما تحت المراقبة المستمرة والعقاب الفوري على كل التصرفات، إضافة إلى عزله عن المجتمع، فهو ممنوع من الذهاب إلى بيت عمه أو خاله، حتى لا يختلط مع أبنائهم، بذريعة حمايته من العادات السيئة، كما يظنون، وهنا لا يجد الابن أحدا يتحدث معه عندما يغضب منه أبواه أو يعاقبانه إلا الخادمة، وهذا بالطبع أمر خطير جدا، ومن شأنه أن يحدث مشكلة كبرى قد لا يجد الأبوان لها حلاً، ومن شأنه أن ينمي العلاقة العاطفية بين الابن والخادمة على حساب علاقته بأبويه، وهو أمر خطير له عواقب وخيمة.
وأكدت البشر أن الطفل الذي ينشأ في أسرة كبيرة يتعلم من أخطاء أقرانه، ويتعلم أيضا الأنشطة المختلفة منهم، بما ينمي قدراته، وأن تربية الأبناء تعتمد على الوالدين أينما وجدوا، سواء في أسرة كبيرة أم صغيرة، «فمن يريد الحرص على أن يكون ابنه مبدعا واجتماعيا وإيجابيا ويتعامل مع الآخرين بكل تقدير، فان ذلك يأتي من خلال إشراكه في النوادي وحضور المناسبات الاجتماعية، وأيضا الخيرية التي تحث على التواصل الاجتماعي والعائلي».
وأشارت إلى أن بعض الأسر الكبيرة تشكو من فقدانها السيطرة على أبنائهم، فما هو ممنوع عندهم مباح عند أبناء عمومتهم، وهنا تتعقد الأمور وتفقد الأسرة السيطرة على الأبناء، فما تحرمه منه الأم يحصل عليه من ابن عمه.
تجربة شخصية
هذه الحالة لا تنطبق كل الأسر، فالتعميم خاطئ بالضرورة، وتروي د.البشر تجربتها الشخصية في هذا المجال فتقول: «عندما كنت في بيت عائلة زوجي وتربى أبنائي الكبار وسط أبناء أعمامهم، وبصحبة جدهم وجدتهم، كنت حريصة على اللقاءات العائلية، إضافة إلى وجود أبنائي في الأندية المسائية، وصحبة أبيهم إلى المسجد، الأمر الذي جعلهم يتربون تربية صحيحة ونموذجية».
وتضيف د.سعاد: «من واقع الحياة العملية، ومن خلال الحالات التي ترد إلينا، نجد أن تربية الأبناء في الأسر الكبيرة أو الأسر الصغيرة ينعكس على الأبناء بشكل كبير، فقد تجد الابن الذي يتربى وسط أسرة صغيرة وتحت مراقبة خاطئة من الأهل منعزلاً، ويتسم بالخوف الشديد ويصبح شخصية مترددة، كما أن الآباء والأمهات الذين يعشون في أسر كبيرة ولكن في غياب دائم عن الأسرة والبيت، كأن يكون الأب مشغولاً بالديوانيات والأم بالتسوق، نجد أبناءهم سلبيين، وتربيتهم ليست على المستوى المطلوب، ما ينتج عنه عدم الوعي وقلة التوجيه، أما الخطأ الذي يحدث في الأسر الصغيرة أو النووية، فإن الحرص الشديد على الأبناء وحرمانهم من الاحتكاك بأبناء عمومتهم وأبناء الجيران يجعلهم يعيشون غربة داخلية».
وتضيف د.سعاد أن في هذه الأسر تجد الطفل ينتظر الأوامر من والديه حتى يتصرف، خاصة إذا كان وحيدا، فالأم تتحدث باسمه، وهذا يلغي شخصية الطفل وينتج عنه التردد والانعزال وكل المشاكل النفسية.
سلبيات وإيجابيات
وتوضح د.البشر أن تربية الطفل في الأسر الممتدة يحمل إيجابيات وسلبيات، فالإيجابيات أن يتعلم من جلوسه في الديوانية مع الجد والأعمام الشهامة والرجولة والكرم وحسن الأخلاق.
أما السلبيات فتحدث عندما لا تكون هناك رقابة من الأهل. بحيث يتعلم الابن من أبناء عمومته أخلاقيات سلبية.
وفي المقابل، فإن وجود الولد في الأسرة النووية يحمل إيجابيات وسلبيات، فالإيجابيات هنا تتمثل في وضع الأبوين برنامجا محددا لتربية الطفل، ويكون فيه أوقات لزيارات العائلة والنوادي، ومن هنا يتعلم الأخلاقيات الحميدة. أما السلبيات فهي عزل الابن عن المجتمع، ويجعل غياب الأم والأب الطفل وحيدا، ليس لديه من يوجهه، ولا يجد حضنا دافئا إلا الخادمة، بما ينجم عن ذلك من عواقب وخيمة.
مشاهدات واقعية
وعن الحالات التي تأتي إليها تحدثت د.البشر عن إحدى الأسر الصغيرة التي كان فيها الابن ممنوعا من زيارات الأهل، وكانت عليه حماية زائدة وسيطرة غير مبررة، أدت إلى جعل الابن مترددا وانطوائيا، ويعيش فقط أمام الإنترنت، ولا يحب أن يخاطب الآخرين، ويفتقد أبسط أساليب التحية لمن يزورهم، ويحمرّ وجهه عند مقابلة أحد.
ووجهت البشر رسالة إلى الأسرة الكبيرة تدعو أفرادها ليكونوا على قلب واحد، ويتحاور الوالدان في تربية الأبناء، لخلق التوافق والانسجام، ما يؤدي إلى تربية جيدة. أما الأسر الصغيرة أو النووية فتنصحهم د.البشر بالوجود مع الأبناء قدر المستطاع، ومحاولة وضع برنامج معيّن للطفل، وعدم جعل الفراغ يتسلل إليه، وإشراكه في النوادي والزيارات العائلة، حتى يعيش الطفل على العادات والقيم الصحيحة.