الهجرة إلى الموت!

القاهرة-علاء البربري

لماذا يصمم الشاب الذي استطاع جمع ما يقرب من 40 ألف جنيه مصري (ألفي دينار كويتي تقريبًا) على اتخاذ طريق محفوف بالمخاطر ليصل إلي أوروبا ويطارد من الشرطة وفي عمل لا يتناسب مع مؤهله الجامعي على الإطلاق.. هذا إذا وصل أصلاً حيًا.

لماذا لا يعمل في بلده وينشئ مشروعًا صغيرًا بهذا المبلغ؟

وكيف يتجرأ على تكرار تجربة أدت إلي موت بعض أبناء قريته أو على الأقل فقدهم؟.. وهل إلي هذا الحد لا يطيق الشباب صبرًا على ظروف بلدانهم الاقتصادية أم أن ظروفها الاجتماعية والسياسية أيضا تؤثر فيهم وتدفعهم للبحث عن حياة أكثر تحضرا؟

السفر لإيطإليا

صبي السمسار الذي كان يجمع جوازات السفر ومقدم ثمن المخاطرة قال لي بحسرة: لقد اعتقلوا السمسار لأنهم لم يستطيعوا -رغم تأكدهم من نشاطه- إثبات تورطه.. وها أنا أقشر بطاطس في انتظار خروجه من الحجز المؤقت في مركز الشرطة... أو السفر لإيطإليا !

طلبت منه عناوين و أرقام تليفونات بعض من سافروا وعادوا و بعض أقارب من سافروا ولم يعودوا، فدلني على قرية «ميت ناجي» إحدي قرى محافظة الدقهلية وعرفت منه أن هناك خمسين مفقودًا على الأقل من شباب هذه القرية كانوا في طريقهم لإيطإلىا مستقلين مراكب بعضها غرق وبعضها وصل ولكن إلى جهة غير معلومة!

كانت الساعة تشير إلي الثامنة مساءً. الوقت مازال مبكرًا على النوم في العاصمة، لكن للقرى رأياً آخر.. لا أحد في الشوارع باستثناء أصحاب المحلات المتواضعة في بضائعها..

50 مفقوداً

سألنا بعضهم أن يدلونا على بيت احد المفقودين خلال محاولته الهجرة لكن الخوف من فتح الجروح التي لم تندمل بعد، كان غالبًا حيث لم نحصل على المساعدة المطلوبة.. شاب بدا علىه الحزن الشديد قابلناه بالصدفة واسمه هيثم محيي (25 سنة)، أخ لأحد المفقودين الـ50 من القرية.

بعد تعارف سريع وبعد ابداء تعطافنا مع، وأسفنا لفقده أخيه سألناه:

كيف عرفت أن أخاك مفقود وليس ضمن من هلكوا مثلاً؟

- من الذين عادوا لقد حكوا لنا أن مركبين خرجا من السواحل الليبية معا.. أحدهما تعطل في البحر والآخر الذي كان فيه « تامر» أخي استكمل طريقه. لقد قالوا لنا إنهم ظلوا عشرة أيام في البحر من دون أكل أو شرب.. أحدهم أصيب بهستيريا وألقى نفسه في الماء قائلاً: «أنا رايح مشوار، حد عايز حاجة؟!» وأحدهم حاول أكل ملابسه من شدة الجوع وأخيرًا لاحت في الافق بارقة حيث انتشلت مركب إيطإلى من بقي حيًا، وأعادتهم وأعرف منهم أحمد مصطفي ورضا موسي ووائل الجوهري ورضا راشد.. وعرفت أيضا أن رضا ووائل حإلىًا في ليبيا لإعادة محاولة السفر مرة أخري.

مات متأثراً

وماذا عن أخيك؟ وكيف كان وقع الخبر على أسرتك ؟

- أبي مات متأثرًا بخبر فقده ولكننا نظن أنه في أحد السجون الإيطإلىة يقضي فترة عقوبة على التسلل لإيطإليا ثم يفرجون عنه وما يطمئنني أنني أعرف شابًا قضي 5 سنوات في إيطإليا دون أن يتصل بأهله ثم عاد ومعه الإقامة!

الحكومة الآن نشطت في القبض على المهربين.. هل حدث ذلك عندكم في القرية؟!

- قبضوا على أحدهم أما السمسار (.......) الذي سفر أخي فقد استطاع الهرب من قبضة السلطات.

هل ترغب في السفر أنت أيضا على الرغم من علمك بأن هناك خمسين شخصًا مفقودين حتى الآن من قريتكم فقط أحدهم هو أخوك؟!

400 جنيه

- أنا منتظر أي فرصة لأسافر وسأظل في انتظار الفرصة إلي أن تأتي وإلا قل لي بالله علىك ماذا سأفعل هنا.. أعمل بـ300 أو 400جنيه في الشهر؟! أنا كده كده ميت في بلدي يبقى أسافر يمكن أعيش كما يعيشون في عز.. هل تعرف أن من بلدنا ألف ونصف الألف معهم إقامات في إيطإليا ومثلهم مثل الإيطاليي ن وهناك ألف أخرون ينتظرون الإقامة.. لا يوجد شباب الآن في البلد إلا الخائبون أمثالي! منذ أسبوع فقط وبعد كل هذه الهوجة شباب سافروا واتصلوا بأهالىهم وقالوا لهم إنهم بسلام في «ميلانو» بإيطإليا.

لما يكون شاب في مثل سني سافر وبعد عدة سنوات يعود إلى بلده يهدم بيته القديم ويبني بيتًا جديدًا ويشتري أرضا إذن لماذا لا أقلده..

(وتركنا هيثم يسترسل، فقد كان يتحدث بمرارة واندفاع وأحسسنا أننا لو قاطعناه سنفقد معلومات مهمة).

يقول: الإقامة هناك يشترونها بـ150ألف جنيه، مكسب أي شاب يعمل في مجال المقاولات يصل إلى ألف جنيه في الىوم أي بعد 50 يومًا يستطيع أن يدفع تكالىف الإقامة الرسمية وبعدها يبدأ في الادخار.. ولو نزلت البلد قبل كم سنة لاندهشت كيف تغيرت 180 درجة الآن.. كلها مبان جديدة.. والشباب ما شاء الله من قضي منهم 5 سنوات في الغربة أصبح مليونيرًا..

هل الـ50 شخصًا المفقودين حملة شهادات علىا؟

- كلهم خريجو كليات: وأذكر منهم ، محمود طه العزب كلية تربية وجودة محمد جودة تربية وياسر محمود أبو جاد مدرس وأحمد عطية خريج علوم وهكذا..

« الناس يفكرون أن شباب الأرياف حمير لا يفهمون، لعلمك إحنا أنصح من ناس كثير وعارفين مصلحتنا كويس، زملائي سافروا وخدوا إقامات ورجعوا يحكوا لي أن الشرطة هناك لو وجدت واحدًا منهم تائها عن عنوان يوصلونه حتى الكلب هناك له قيمة فما بالك بالبني آدم». أنت يا أستاذ لم تر الناس في الخارج كيف يعيشون! لو عرفت تقول نموت أحسن.

بعد اختفاء أخيك واحتمال فقده نهائيا هل توافق والدتك على سفرك إن أتتك الفرصة؟

- الأم سترفض في البداية لكنها ستوافق لأنها تريد أن تراني مثل الشباب الناجح الذين سافروا وعادوا رافعي رؤوس ذويهم .. أنا أعرف بيتًا بالقرب منا مكونًا من خمسة إخوة اثنان منهما فقدا والثالث الآن في ليبيا ليجرب حظه. أنا أعرف أن شخصًا كان هنا «حرامي» والكل يعرف أنه سافر إلى إيطإلىا وقرر عدم العودة.. ووصفه البعض بالتائب و الآن نقول له يا حاج ويا باشا هو تاب لأنه وجد كل شيء أمامه في بلده حلال..

وزارة القوي العاملة والهجرة تقول إنها توفر للشباب فرص هجرة بعقود وبشكل لائق وما علىك سوى التقدم وفقًا للإعلان الذي تطرحه في الصحف وعلى شبكة المعلومات، ما رأيك؟ - الوزارة وفرت ألفي تأشيرة لشباب مصر كلهم وهي تأشيرات محجوزة مسبقًا قبل الإعلان عنها، تعتقد أني أكون موظفا في الوزارة وأترك ابن أختي دون أن أسفره.. يا باشا كله كلام في كلام.. وأتحداك إن كان من الألفين، تأشيرة واحدة لـ 50 من البسطاء أمثالنا ..

اصحاب القضية

انتهي كلام أحد الشباب أصحاب القضية الحقيقيين ليرد بذلك على كبار المسؤولين الذين صرحوا في كبريات الصحف بأن الشباب يسعون وراء أوهام ورحلاتهم فاشلة يضيعون فيها نقودهم ويعرضون حياتهم للخطر، نعم إنهم يعرضون حياتهم للخطر لكن ما البديل أمامهم هل هي القروض من الصندوق الاجتماعي كما صرح الدكتور أحمد نظيف رئيس مجلس الوزراء؟ وهل سيتسلمونها بسهولة ويسر ويستطيعون بعدها كسب لقمة العيش دون تعقيدات بيروقراطية أم أن المسؤولين لا يكلفون أنفسهم عناء النزول لمستوى هؤلاء الشباب ليعرفوا المشاكل التي يواجهونها ويذللونها بصدق حتى لا تتكرر المآسي!..من وجهة نظر أخرى يتساءل الإعلامي جمال سلطان عن الأسباب التي تحطم قوارب المهاجرين وتشطرها إلى نصفين عند شواطئ إيطإلىا وعن مدى مسؤولية قوات حرس السواحل الإيطالىة عن مقتل مئات الشباب ويروي أنه رأى فيلما وثائقيا عن سفن حربية إيطالية كانت تصطدم متعمدة بسفن المهاجرين الألبان وتشطرها نصفين وهو ما يذكرنا بفيلم آخر تضمنته أسطوانة مدمجة وزعتها السفارة الإيطإلىة العام الماضي على الإعلاميين لبيان الفارق الشاسع بين المهاجر الشرعي ونظيره غير الشرعي وظهرت بالفيلم عدة مشاهد تصور تصويب خراطيم مياه أشبه بخراطيم المطافئ تدفع مياها غزيرة من سفن إيطالىة إلى مراكب مكدسة بالمهاجرين وكأنها تدفعهم بعيدا عن الشواطئ الإيطإلىة وإن غرقوا.

مفتي الديار

ويتعرض مفتي الديار المصرية لحملة انتقادات واسعة بسبب فتواه بأن المهاجرين الذين دفعوا مبالغ ضخمة لسماسرة الهجرة طماعون يسعون لمزيد من الرزق ولذا لا يمكن اعتبارهم شهداء وكأنه يلقي باللوم على الأموات لا على المسؤولين في البلدين مصر وإيطإلىا.

يبقى أن نذكر أن مباحث الأموال العامة بالجمهورية نشطت فجأة بعد قرار النائب العام بضبط السمسارة واستطاعت خلال أيام قليلة القبض على أكثر من 25 سمسارًا من محافظات الاسكندرية والبحيرة والفيوم والغربية والدقهلية والقليوبية وعلى سبيل المثال تم القبض على ثلاث عصابات بالبحيرة وأصحاب المراكب التي استخدمت التهريب من الاسكندرية وبينما أقامت محافظة الفيوم مقبرة جماعية لدفن ضحاياها من قرية «شدموه» وقد تعدوا السبعين ضحية حاول المتهم الرئيسي في الهجرة غير المشروعة الانتحار في معتقله بعد شعوره بفداحة الجرم الذي ارتكبه حيث تسبب في مقتل كل هؤلاء الشباب الفارين من الموت البطيء في بلدانهم إلى أمل الحياة في بلدان غيرهم عبر رحلة موت في أغلب الأحيان.

شر البليّة

- الشائع في قرى المهاجرين لإيطاليا أن يعود الشاب بعد حصوله على إقامة رسمية، وهو في الغالب لا يتجاوز نصيبه من التعليم المرحلة المتوسطة أو (دبلوم صناعي أو تجاري).. يتقدم لخطبة أي فتاة تعجبه حتى ولو كانت حاصلة على بكالوريوس طب وجراحة.. والفتاة لا تعارض والأهل لا يعارضون ومنطقهم في ذلك هو: إقامة إيطإلىة أحسن من الشهادة الجامعية. من يسافر لإيطإليا ويعود يهدم بيته القديم ويبني في القرية ناطحة سحاب على نفس رقعة الأرض.

ومن يحاول السفر ويفشل يعود وقد خسر رهن بيته فيفقده ويعيش متسولاً عند أقاربه.

ومن بقي على حاله فبيته لا يكاد يرى بين بيوت عملاقة عن يمينه وعن يساره ومن خلفه وأمامه..

هؤلاء هم الناجون من الموت، العائدون إلي ناطحات السحاب.

بعد أن كان مستوى التعليم في القرى التي سافر معظم شبابها لإيطإلىا مرتفعًا.. تكاد المدارس الثانوية تقتصر على تلك المخصصة للبنات فقط.. وكذلك الالتحاق بالجامعات صار من نصيب الفتيات وحدهن، وأصبح الطالب بالمرحلة الإعدادية يعرف طريقه جيدًا.. سيتـرك الدراســة بعدها أو على الأكثر سيكتفي بدبلوم صناعي بعده يسافر لإيطإليا ليصبح من أغنياء القرية خلال خمس سنوات كان سيقضيها إن واصل تعليـمه في كلية يخرج بـــعدها من فقراء العالم.

عندما توفي شاب في محاولة الهجرة.. أتى السمسار لوالد الشاب بالمبلغ الذي دفعه ابنه مقابل تيسير هروبه لإيطإليا.. لكن الوالد رفض استلام المبلغ قائلاً.. اعتبره مصاريف أخيه الثاني في رحلة الهروب التالىة!

No comments

Powered by Blogger.