العرب في عالم القيم المرتبكة

تحت عنوان «الوجود التاريخي والقيم» ألقى المفكر اللبناني ناصيف نصار محاضرته التي تركزت حول النظر الى الوجود التاريخي والقيم، ومدى استجابة العرب للتغيرات في القيم في زمن العولمة، وذلك ضمن الفعاليات الثقافية لمعرض الكتاب بدمشق.
تحدث نصار في محاضرته عما أسماه بالارتباك القيمي الذي أصبحنا نلاحظه في العالم العربي والغربي، وهو ليس ارتباكا في القيم نفسها، ولكنه ارتباك في سلوك الناس في موقفهم وإدراكهم وكيفية تعاملهم مع القيم، وذلك في المجالين العربي والعالمي، ولكن بالطبع يختلف هذان المجالان من حيث تشكل الارتباك وقوته ونتائجه.
ففي المجال العربي نلاحظ تصادما مازال مستمرا منذ قرنين، ويتطور بأشكال مختلفة بين ما يسمى القيم التقليدية (التراث) والقيم الحداثية (الوافدة من الغرب)، حيث اصبح الغرب يبسط سيادته وقيمه على المعمورة كلها.
أما في المجال العالمي فيوجد ارتباك كبير، ولكن وتيرته تختلف عن الارتباك الذي نجده في المجال العربي، وعلى الرغم من أن المجال العالمي غير موحد، ولكنه في طور التوحيد تحت ما يسمى بالعولمة، وكل ما نستطيع قوله في إحوال العالم ينبغي ملاحظته بمنظور العولمة، والتي هي محكومة بقوى عواصم كبرى تنتج كل شيء من الأمور المادية والثقافية، ومن ضمنها القيم، ويضيف نصار بأن العولمة المحكومة بالرأسمالية والليبرالية لها تغيير سريع، وتعيد النظر في القيم وتبني قيما جديدة وتنقد القيم الموروثة وتحافظ، حيث ينبغي المحافظة، ولكن هذا العمل كله ينتج عنه ارتباك شديد في موضوع القيم وينتج عنه اتجاه هو نتيجة مجموعة عوامل متضافرة وهو اتجاه نحو (الفردانية) ونحو نوع من تناول القيم حول الفرد (الفرد المنعزل)، لكن هذا لا يعني أن الاعتبار الاجتماعي في القيم قد غاب في الغرب، ولكن هناك نزعة سائدة أصبحت تسيطر نتيجة لعوامل كثيرة وهي الفردانية، والتي لا تترك القيم بمعزل عن تأثيرها.
الفلسفة وأنماط التفكير الأخرى
ويوضح الكاتب في محاضرته بأنه علينا أن نميز بين الفلسفة وأنماط التفكير الأخرى التي يمكنها ولها الحق في تناول موضوع القيم. يتمثل النمط الأول بالدين: في النظرة الدينية للإنسان والعالم توجد منظومات قيمية، ففي الإسلام والمسيحية يوجد منظومات قيمية وفي الأديان الأخرى كذلك هناك نظرة دينية لقيم تختلف جذريا عن النظرة الفلسفية للقيم.
النمط الثاني وهو قريب من النمط الديني، كنمط تفكير ولكنه بعيد عنه من حيث المرتكزات، وهو نمط التفكير الايديولوجي ففي الايديولوجيات يوجد أيضا منظومة قيم، وكل أيديولوجية تحاول تبني منظومة قيم والدفاع عنها. أما النمط الثالث فهو نمط التفكير العلمي: فالعلم من الناحية المبدئية بعيد عن القيم ولايتناولها، لأن القيم تفترض شيئا لا يأخذ به العلم بعين الاعتبار لأنه خارج عن مبادئه وقواعده وهو ما يتعلق بالمسألة المعيارية، فالقيم هي بالذات معيارية لأنها تقدم نفسها كسلوك للأفراد، أما العلم فإنه يقدم نفسه بوصفه ذا طبيعة وضعية لا يأخذ بالنواحي المعيارية.
أما المقاربة الفلسفية للتفكير في القيم برأي الكاتب فهي تسير بين طرحين متناقضين:
الأول هو الذي ينطلق من الميتافيزيقيا الى الأخلاق، فالقيم، ويرى الكاتب بأنه من الواجب علينا أن نفكر بالقيم قبل أن نفكر بأي شيء بالنسبة بالميتافيزيقية، لأننا قد نختلف ميتافيزيقيا ونتفق قيميا.
الموقف الثاني المتطرف الذي يستبعده الكاتب هو الموقف (الفرداني الذاتوي)، وهو الموقف الذي ينفي كل معقولية عن القيم، ويترك لكل فرد أن تكون له منظومته القيمية بحسب أهوائه وميوله، وبهذه الحالة تصبح الأمور فوضى، بحيث تصبح لكل فرد قيمه ولا سبيل لقيم مشتركة بين الناس، وهذا غير مجد لأن الوجود الانساني هو وجود اجتماعي، ولا مخرج لنا من ذلك ولا بد لنا من إيجاد قيم مشتركة.
وبين هذين الموقفين المتعارضين يجب أن نؤسس للقيم بما يسمى النظر على القيم من المنظور الوجودي التاريخي، فالارتباط بين القيم والوجود التاريخي هو ارتباط وثيقي وحيوي وكياني.
الوجود التاريخي والقيم
ويرى الدكتور نصار أن مفهوم العلاقة بين الوجود التاريخي والقيم يتم من خلال فهمنا لنقاط ثلاث وهي:
الأولى من خلال تحديد مفهوم القيمة، والتي برأيه تمثل كل ما هو جدير بأن يكون مطلوبا، وهي ما يصح اعتماده مرجعا للفعل، فنحن كائنات تفعل، وكل خطوة من خطواتنا تفترض مراجع لفعلنا.
ويرى الكاتب أنه لا يمكن تجريد عالم القيم عن المثالية، ولكنها ليست بالضرورة مثالية ميتافيزيقية، هي مثالية أصيلة، مثالية الوجود الإنساني، ولو لم تكن القيم ضرورية لوجودنا الانساني، وذات علو لما طلبناها، وبهذا نكون أمام مثالية أصيلة لا تعبر عنها مثالية أفلاطون، ولا المثالية الألمانية.
النقطة الثانية تتعلق بطبيعة هذه القيم من حيث كونها فردية أو جماعية.
وهنا يرى المحاضر بأن القيم هي بالأساس مرتبطة بذات فاعلة، ومن دونها لا توجد قيمة فاذاً المرتكز في النظرة للقيم هو الفرد، ولكن هذا لا يعني أن الجماعة لا علاقة لها بالقيم، فالجماعة هي مجموعة أفراد، وكذلك هي مجموعة ذوات، وهنا ينفتح تفكير حول مسؤولية الافراد والجماعات عن القيم، فالجماعات تميل الى الاستقرار ولذلك تميل لأن تجعل المؤسسسات القائمة مستقرة يعيش بها الافراد بسلوكية موروثة تورثها بدورها الى الأجيال الاخرى، أما الأفراد بطبيعتهم يميلون الى التميز عن الجماعة أو الى استباق الجماعة، فالمبادرات بشكل عام في موضوع القيم هي من نصيب الأفراد، وطبعا بعض الافراد يصل بهم الحد الى فرض قيم جيدة، والتمرد على افكار الجماعة، وهذه مشكلات موجودة في مجتمعنا بشكل خفي وعلني وعلينا التفكير بها حتى يكون تفكيرنا بالقيم تفكيرا جديا ومسؤولا.
النقطة الأخيرة تتعلق بالثبات والتحول في القيم.. وبما أننا مخلوقات إنسانية فنحن محكومون بقانون التغير، ولا نستطيع الخروج عن هذا القانون، والتغير واقع وهو يحكمنا، ولكن ليس بالسرعة ولا بالشمول الذي يتصوره أصحاب الميتافيزيقية المطلقة، هناك تغير بدون شك إلا أنه أمر تدريجي، وهناك أشكال كثيرة للتغير تدفعنا للتساؤل عن العلاقة الجدلية بين الثابت والمتحول في القيم، والسؤال الأصعب هو هل يوجد عالم من القيم الثابتة؟ هل يحمل الوجود الانساني في ذاته علاقة بقيم ثابتة؟
فالوجود الانساني من حيث هو وجود نوعي يحمل في طياته علاقة بقيم عليا، ولا سبيل للانفكاك عنها، وهي قيم ثابتة الا أن ممارستنا لهذه القيم هي المتغيرة.
الهوية العربية.. المهددة
ويخلص الكاتب الى أن هويتنا العربية الاسلامية مهددة خاصة في موضوع القيم، فلا يوجد لدينا تراث فلسفي عقلي متماسك حول موضوع القيم يضاهي او يتفاعل مع النظرة الدينية وبخاصة الإسلامية للقيم، فنحن نختزل التراث العربي عندما ننظر لمسألة القيم من الزاوية التاريخية الاسلامية، فتاريخ العرب أوسع من الاسلام، وهناك قيم في تراثنا جاءت الينا من التاريخ العربي ما قبل الإسلام، ولاتزال مظاهرها موجودة في عالمنا الآن. ويتساءل الدكتور نصار هل المروءة التي كانت أساسية في ذلك العصر، والتي يرى فيها المفكر المغربي محمد عابد الجابري إحدى الركائز الاساسية للموروث القيمي عند العرب، هل ماتزال أساسية في عالمنا اليوم عند العرب؟ ما هو حالها الآن ضمن سلسلة القيم التي نعيشها في وضعنا اليوم؟
ويشير الى أنه أمام هذا الوضع والنكبات التي عاشها العرب وبخاصة احتلال فلسطين، وأمام هذا الاختلال الهائل لمنظومة القيم وما أصابه منها، وبخاصة في موضوع العدل، والذي هو قيمة كونية، فإننا نلاحظ فقرا شبه كامل في معالج مفهوم العدل، فلا يوجد لدينا الى الأن نص فلسفي نظري حقوقي حول موضوع العدل بكل أشكاله السياسية والاجتماعية، فنحن لا نجرؤ على الخوض في هذا المضمار، ونحاول أن نركب لانفسنا تصورا من هنا وهناك، نأخذه اما من القدماء أو الغربيين أو أحد الفلاسفة الفريدين.
وبرأيه هذا وضع يستدعي التفكير والتغيير، فلابد للعرب من أن يسهموا إسهاما فعالا في نظرية القيم، انطلاقا من القيم التي يضعهم موقعهم التاريخي في مواجهة معها، ومنها مسألة العدل دون استثناء للقيم الأخرى كالحرية، والمطلوب منا كعرب ألا ننتج نظريات بل نعيش هذه القيم، فالقيمة ليست في التصور، بل هي في الالتزام بها، وهذا جزء مكون من وجودنا.

No comments

Powered by Blogger.