« الكواكب».. عندما تصبح السمفونية مركبة لزيارة الكواكب الأخرى


أثبت المؤلف الموسيقي البريطاني غوستاف هولست أنه أستاذٌ في علم التنجيم، عندما ألَّف أشهر أعماله الموسيقية «الكواكب» بين -1914 1916.

 فقد استلهم الصور التي وضعها عن الكواكب من خلال أسمائها الأسطورية وما تحمله من مضامين تنجيمية حول سلوك الأشخاص. لكن هذا العمل لم يشمل كوكب الأرض، لأنه كان يتحدث عما تعنيه الكواكب السبع الأخرى (حيث لم يكن كوكب بلوتو قد اكتُشف حينذاك) بالنسبة لسكان الأرض. كما لم يكن الهدف منه تقديم وصف علمي مفصَّل لتلك الكواكب.

إذاً كيف كان هولست سينظر إلى العمل الذي قدمه قائد الأوركسترا النمساوي هانز غراف، وهو بعنوان «الكواكب- ملحمة من الصور عالية الدقة»، إلى جانب فرقة هوستن السمفونية على مسرح صالة كارنيغي ليل الخميس الماضي؟ فخلال قيام فرقة الأوركسترا بأداء مقطع غني بالألوان والحيوية من هذا العمل على ذلك المسرح المجهَّز بالإضاءات الخافتة، تم عرض فيلم فيديو حول بعض الاستكشافات الحقيقية التي قام بها رواد الفضاء لكواكب النظام الشمسي على مدى الـ35 سنة الماضية.

الصور التي احتوى عليها ذلك الفيلم، الذي تم إنتاجه وإخراجه من قبل دنكان كوب، كانت مذهلة في أغلب الأحيان. فبعضها تم التقاطه عبر المسابير والأقمار الاصطناعية والرادارات، في حين تم تركيب بعضها الآخر بوساطة برامج الكومبيوتر، إلا أنها جميعها كانت تهدف لإعطاء الجمهور شعوراً بأنهم يجوبون الكواكب الأخرى واحداً تلو الآخر، ويحلقون أحياناً فوق منبسطاتها الشاسعة والقاحلة والمهيبة.

لكن يتعين على المشاهد أن يوزِّع تركيزه على عدة جوانب حتى يتمكن من تقويم هذا العمل الملحمي بشكلٍ دقيق. فقد بدا ذلك الفيلم الآسر وكأنه يطغى على العمل الموسيقي الذي قدمه غراف على مدى نحو 60 دقيقة. بل حتى موسيقى الأوركسترا نفسها بدت وكأنها صُمِّمت لتكون موسيقى تصويرية من أجل ذلك الفيلم. ومع أنها ليست المرة الأولى التي يتم فيها الدمج بين الموسيقى والصور في هذا العمل، إلا أنه لم يسبق أن تم هذا الأمر بهذه الدرجة من الإتقان والجمال.

في الملحوظات التي دوَّنها على غلاف التسجيل المثير الذي قدَّمه عن «الكواكب» في العام 2006 مع فرقة برلين السمفونية، قال قائد الأوركسترا سايمون راتل «ليس ذنب هولست عندما يقوم واضع الموسيقى التصويرية الخاصة بالفيلم باعتبار الموسيقى الخاصة بالعمل السمفوني وكأنها صندوق أدوات خاص به، فيسرق منها ما يشاء دون خجل». ثم يضيف: «وبعد أن يصبح العمل خارج حماية حقوق النشر، فإنه لا يكلف نفسه حتى عناء إدخال تعديل على النوتات الموسيقية».

«الكواكب» من الأعمال التي تنضح بقدرٍ كبيرٍ من الإبداع والأصالة على المستوى الأوركسترالي، حيث نلمس فيه تأثيراً واضحاً لكلٍّ من ديبوسي وشونبيرغ. وبالرغم من قدرة الموسيقى على استحضار أجواء النظام الشمسي، إلا أن هذا العمل يبقى يتميز بلمسة بريطانية ساحرة، وخاصة في مقطوعة «المشتري، جالب المرح». ففي هذا المقطع يتبادر إلى الأذهان على الفور مشهد المشجعين البريطانيين وهم يرفعون أكواب الجعة بعد مباراة في الكريكيت، والجنود البريطانيين الذين يستعرضون انتصاراتهم بأسلوب ينم عن حبهم لوطنهم، كما ينضح بنبرة حنين إلى حياة الريف التي تتميز بها مقاطعة كوتسوولد جنوبي إنجلترا.

أما مقطوعة «عطارد، الرسول المجنَّح» فهي أشبه بشيرتسو (أي المقطوعة الثالثة ضمن رباعية) مؤثر ومتألق، حيث يبدو تأثير أوركسترا «ألعاب» للفرنسي ديبوسي في منتهى الوضوح، وذلك بالرغم من المقطوعات الوترية الثقيلة والقوية التي أُضيفت إليها.

وفي مقدمة مصوَّرة لهذا العمل تحتوي على مقاطع من مقابلات أُجريت مع أشخاص بارزين في «مختبر الدفع النفاث» التابع لوكالة «ناسا» في باسادينا بولاية كاليفورنيا، قال أحد العلماء إن الصورة التي يقدمها هولست عن كوكب الزهرة خاطئة برمتها، وذلك لأنه لم تكن لديه أدنى فكرة بأن كوكب الزهرة عبارة عن مكان شبيه بجهنم.
لكن مقطوعة «الزهرة، جالب السلام» الشفافة والتي تحتوي على لمسة انطباعية خفيفة، تُعتبر من أجمل المقطوعات الموسيقية على الإطلاق، حيث يتم فيها استحضار الفكرة الرومانسية الموجودة في ذهن الإنسان العادي حول هذا الكوكب، وليس كما يراه العلماء من خلال أجهزتهم المتطورة. ثم ينتهي هذا العمل بمقطوعة «نبتون الغامض»، التي تجعل كل من يسمعها في حالة من الانتشاء الروحي، حيث يقوم كورس نسائي موجود خارج خشبة المسرح بأداء المقاطع الأخيرة بصوتٍ رخيم يبث الحزن داخل النفوس.

هذا هو الموسم الثامن بالنسبة لهانز غراف في هوستن، حيث لاتزال فرقته الأوركسترالية في أفضل حالاتها. افتتحت حفلة الخميس الماضي بمقطوعة لسترافينسكي تحمل عنوان «شيرتسو فانتساتيك»، وهي العمل الذي ألَّفه سترافينسكي بينما كان لايزال في الخامسة والعشرين من العمر، وذلك تعبيراً، ليس عن تقديره لمعلمه ريمسكي كورساكوف وحسب، بل أيضاً عن مدى إعجابه وتأثره بكلٍّ من ديبوسي ورافل.

وقد كانت فكرة موفقة أن ينهي غراف الجزء الأول من الحفلة بمقطوعة هنري دوتيو، التي تحمل عنوان «النبرات، الفضاء، الحركة» أو «الليلة النجمية». وهذه المقطوعة التي ظهرت في أواسط السبعينيات، والتي استوحاها دوتيو من لوحة للرسام الشهير فان غوخ تحمل أيضاً اسم «الليلة النجمية»، تحتوي على بعد كوني آسر، الأمر الذي أهلها لأن تكون المكمِّل المثالي لعمل هولست «الكواكب»، علماً أنها لم تحتوِ على مقاطع فيديو تشتت الانتباه.

No comments

Powered by Blogger.