د. إمحمد مالكي
يطرحُ التكامل العربي في ضوء خبرات التكامل الدولية العديدَ من الأسئلة ذات الصلة بالفعالية والنجاعة والكفاية. فعلى امتداد أكثر من خمسة عقود شهدت المنطقة العربية سلسلةً من المشاريع التكاملية على الصعيدين الإقليمي والجهوي، وفي أحيان عديدة على المستوى الثنائي أو الثلاثي، غير أن الحصيلةَ الإجماليةَ لم تكن مُشجعةً بما يكفي لإحداث التغيير المطلوب، لاسيما من زاوية تنمية وتطوير العلاقات الاقتصادية والتجارية الأفقية، وتعزيز سياساتهِا المشتركة، ودعم مكانتِها الدولية. وسيكون من الحيف التشكيك في قدرة البلاد العربية على إدراك ما حققه غيرها في هذا المضمار، أو الحكم المطلق على وجود عوائق بنيوية تحول بينها وبين الاستفادة من الخيارات التي تسمح بها التجارب التكاملية الناجحة في العالم. إن النجاح وارد إن توفرت له شروط نحسِبها من الممكنات لا المستحيلات.
ثمة نموذجان جديران بالإشارة في سياق التفكير في حال التكامل العربي في ضوء تجارب التكامل الدولية، يتعلق الأول بـ «الإتحاد الأوروبي»، في حين يخص الثاني «رابطة دول جنوب شرقي آسيا» (الآسيان). فعلى الرغم من اختلاف الجغرافيا، والسياق التاريخي، وفلسفة التكامل، وأوزان الدول، تمكنت التجربتان من الارتقاء التدريجي في سلم تحقيق النتائج ومراكمة المكتسبات، بل تمثلان، بمقاييس التكامل الإقليمي الدولي، مرجعيتين للمقارنة والاستئناس والاسترشاد. فهكذا، يشترك النموذجان في كونهما تكوَّنا في سياق البحث عن مصادر القوة، إما لبناء الدول التي دمرتها الحرب، كما حصل في أوروبا ما بعد 1945، أو لتشييد كيانات خرجت على التوِّ من ليل الاستعمار الطويل، كما كان حال بعض دول «الآسيان»، وهما معاً يلتقيان في الدعم الدولي، والأميركي على وجه التحديد، حيث رَصَدت الولايات المتحدة الأميركية مشروعَ « مارشال» لإخراج الاقتصاديات الأوروبية من نفق مخلَّفات الحرب، وخلقت بذلك دينامية حفَّزت الفضاء الأوروبي على إعادة اكتشاف ذاته، والأهم أيقظت وعيَ النخب والمجتمعات ووجهته صوب السعي إلى اكتساب القوة عبر التكامل والوحدة، فكانت معاهدة روما للعام 1958، التي دشنت تاريخ التكامل الأوروبي وآفاقه البعيدة. ومن الملاحظ أن تجربة «الآسيان»، التي انطلقت بموجب إعلان بانكوك لسنة 1967، ظلت ضعيفة حتى ما بعد منتصف السبعينيات، بسبب التوترات التي قَسمت دولها الخمس (اندونيسيا، ماليزيا، سنغافورة، الفيليبين، تايلاند)،غير أن انهزام الولايات المتحدة الأميركية في حرب الفيتنام (1974)، وخروجها من جنوب شرق آسيا، سيشحذان وعي دول هذه المجموعة ويدفعان بها إلى التفكير الجدّي في تقوية فضائها التكاملي، وهو ما تمَّ تجسيده في إنشاء الأمانة العام للآسيان، وانعقاد أول قمة لدول هذه الأخيرة العام 1976. كما أن الولايات المتحدة نفسها ستحثُّ اليابان على تركيز استثماراتها في دول جنوب شرقي آسيا ونقل صناعاتها إليها، بُغية خلق حركة اقتصادية وتجارية داعِمة لهذه المجموعة التكاملية، ماساهمَ في النقلة النوعية التي عمَّت دول الآسيان، التي يصل رقم مبادلاتها البينية اليوم 25 % من إجمالي تجارتها الخارجية، وهو من أعلى الأرقام العالمية في خريطة التجارب التكاملية الدولية.
تسمح خبرات تجربتي «الاتحاد الأوروبي» و«رابطة دول جنوب شرقي آسيا» (الآسيان) بإبراز مجموعة من المقومات تصلح كمؤشرات إرشادية لمشروع التكامل العربي، ومنها على وجه التحديد: مقوِّم وضع إستراتيجية لتنمية وتطوير الصناعات المشتركة بين الدول الأعضاء. فمنذ انعقاد أول مؤتمر قمة العام 1976 ركزت مجموعة الآسيان على التكامل التجاري وتعظيم معدلات التبادل البيني، وقد جربَّت صيغاً كثيرة لإدراك الفعالية والمردودية، من ذلك إنشاء منطقة تجارة حرة(1993)، مع تحديد 2008 كسقف لتحرير التجارة في السلع الصناعية بين أعضائها، وموازاة لذلك، اجتهدت مجموعة الآسيان في خلق ما أسمته «مثلثات النمو» Growth Triangles، أي إنشاء مناطق اقتصادية وتجارية متقاربة ومتكاملة في القدرات والمزايا، وقد ساعدت هذه الصيغ على تطوير كفاءة الرابطة ودفعت عجلة التنمية داخل بلدانها نحو الأفضل. بيد أن مقابل هذه المنهجية في مقاربة الشأن التكاملي، لعب متغير آخر دوراً مقرراً في إنجاح مسيرة التكامل داخل هذا الفضاء، على الرغم من قِصر عمر تجربته مقارنةً مع التجربة العربية على سبيل المثال، يتعلق الأمر بمعطى «تحييد Neutralisation» العلاقات الاقتصادية والتجارية بين الدول الأعضاء وتجنيبها وِزرَ السياسة وما يترتب عنه من تعقيدات، فمقابل تصاعد وتيرة التبادل التجاري والاقتصادي والمالي، عملت مجموعة الآسيان على تجميد خلافاتها الإقليمية، أو في أدنى الحالات ترشيد ضغطها على مسيرة التكامل بين أعضائها، وقد ساعد على تحقيق هذا المعطى متغير آخر يتعلق بترسيخ التعددية الاقتصادية والسياسية، وخلق مجال حر سمح بالحوار، والتداول، والانفتاح، وتبادل الخبرات دون شعور طرف بالاستقواء على الطرف الآخر، أو التطلع إلى ابتلاعه.. إن ظاهرة الزعامة، والإحساس بامتلاك القوة، والميل المتزايد إلى الهيمنة من الأمراض المتفشية، مع الأسف، في ثقافتنا التكاملية العربية، وقد شكلت بالتأكيد أحد العوائق في الإخفاقات التي منيت بها حركة التكامل العربية.
ثمة مقومات أخرى تضافرت مع ما تمت الإشارة إليه أعلاه لفتح طريق النجاح أمام الاتحاد الأوروبي ومجموعة الآسيان، يتعلق الأمر بتحول المجموعتين إلى قوة تفاوضية في النظام الدولي. فمن مميزات الدبلوماسية العصرية أنها جماعية، تعتمد على منظومات الدول وليس على الدولة بالمفرد، كما وضعت أسسَها معاهدة «وستفالي» في منتصف القرن السابع عشر. والجدير بالإشارة في هذا السياق عجز المجموعات التكاملية العربية عن التحول إلى قوة تفاوضية جماعية، وبالتالي صعوبة تأثيرها في مصادر القرار في النظام الدولي. إن الأمثلة كثيرة للتدليل على صحة هذا المنحى في الممارسة التكاملية العربية، فلو أخذنا، على سبيل المثال، واقع المفاوضات بين الدول المغاربية والاتحاد الأوروبي، حيث أبرمت كل الاتفاقيات منذ 1969 مع كل قطر بشكل منفرد وليس كفضاء تكاملي، كما ليس خافياً أن هذا المعطى أضعف القدرة التفاوضية للبلاد المغاربية وجعلها أقل تأثيراً في العلاقات مع أوروبا. ثم هناك مقوم آخر يُحسب في ميزان القوة لمجموعة الآسيان، يتعلق بالديناميات التحاورية التي فتحتها الدول الأعضاء مع مناطق الجوار للتشاور في القضايا التنموية والسياسية التي تدخل في باب الحس المشترك وبناء المستقبل، وفي صدارتها التنمية، والأمن والاستقرار، لعل أهمها «مشروع نهر الميكونغ الأكبر» (GMS)، و«منتدى الآسيان الإقليمي»، الذي يضم إلى جانب أعضاء الرابطة دولاً مثل الولايات المتحدة الأميركية، والصين، واليابان، والهند، واستراليا، والاتحاد الأوروبي.
إن في خبرات نجاح كل من الاتحاد الأوروبي ومجموعة الآسيان، ما يحفز العقل العربي على الاجتهاد في جعل الفكرة التكاملية أكثر فعالية ونجاعة وقدرة على التأثير في الحياة داخل الدول والمجتمعات العربية.