هل تتمنى أن تكون مسؤولاً عربياً؟
في كلّ مكان في العالم، يتحدث الناس عن رغبتهم في الوصول إلى مراكز متقدمة في قيادة بلدانهم، فمن خلالها يستطيعون أن يحققوا ذواتهم، كما أنهم يقدمون شيئا لمجتمعاتهم.. إن تحقيق الذات الفردانية، هو هدف في الثقافة الغربية، لكنه يقترن عادة بالرغبة في الإسهام في خدمة الكل المجتمعي من خلال الموقع العلمي أو السياسي أو الاجتماعي الذي يحصل عليه الفرد، فيكون العطاء الفردي للجماعة من الأهداف المحترمة التي يفخر الإنسان الغربي في تدعيمها.
وفكرة العطاء هذه تحولت بفعل الممارسة الدائمة إلى ثقافة عامة تعزز الشعور الداخلي لدى الأفراد بضرورة مواصلة الخدمة العمومية في جميع المواقع وفي كل الأوقات، بخاصة بعد أن يتلمسوا آثارها الاجتماعية أو العلمية أو السياسية على المستوى الشخصي والعام، وتساهم ثقافة العطاء في ترسيخ العمل الجماعي والمشترك، وتمنحه قيمة ومعنى، لأنه يستطيع تحقيق أكبر المكاسب المستهدفة بأقل الجهد.
هكذا تأخذ فكرة الإدارة الجماعية للحكم– الديمقراطية- عنوان القوة والثبات في ثقافة الإنسان الغربي، وتتسم المجامع العلمية المعتمدة على المشاركة البحثية والانجاز الجمعي في المعامل والمختبرات بصفة العمل المؤسسي الراسخ، وتتعاظم المبادرات التطوعية والإنسانية وتحوز سبق التفوق في المبادرة نحو الخدمة العامة، وتجد أكبر وأضخم المؤسسات التطوعية المعنية بحقوق الإنسان ومقارعة التمييز، والجماعات المطلبية والعمالية تتكاثر في العالم الغربي.
الإنسان الغربي في رغبته وطموحه وحراكه يعكس حالة من الانسجام مع ذاته ومع ثقافته وتجربته الاجتماعية، وهو لا يعيش أزمة تناقض وتباعد بين ما يريد في باطنه، وما يريد في ظاهره، وهو ما يعينه على النجاح في تحقيق معنى وطني وإنساني صالح على المستويات السياسية والاجتماعية والثقافية والعلمية.
أما الإنسان العربي، فهو يعيش الكثير من التناقض والخصام الداخلي، وعادة هو لا يقول ما يريد بصراحة وصدق، لكنه يختبئ خلف الكلمات ويتصنع الأفكار، ويظهر عكس ما يبطن، ولذلك هو يعيش دوما في حالة من المعاناة والألم له ولمن حوله، فهو يميل إلى فكرة أو قضية، ولكنه يتبنى فكرة أو قضية مناقضة لها، فهو بمثابة المختبئ والمتمترس خلف الفكرة.
وسنجد أمثلة كثيرة على ذلك، في الواقع السياسي مثلا، يدعو الحزب إلى احترام الرأي الآخر وصيانة الحريات العامة ويرفع شعارات الحقوق والمطالب، لكنه لا يتورع عن ضرب كل تلك الشعارات والأقوال عرض الحائط إذا وصل إلى الحكم، أو إذا أعاقت تلك الشعارات المقولات مصالحه الحزبية.
وفي الواقع الثقافي والديني،
لا يتردد بعض الذين يدعون إلى الوحدة الإسلامية، أو الوطنية داخل المجتمع ويتبنون قضايا ذات صلة بالحريات الثقافية والدينية والحث على القبول بالتنوعات والعيش بسلام اجتماعي، من التورط في الفتنة إذا اقتضت مصالحهم ومطامحهم ذلك، ولو اضطروا لدعم سلوك الفرقة المشتت للجماعة والتوافق الداخلي.
وأحسب أن أحد أسباب ذلك هو ثقافة الاختباء خلف الفكرة، بدلا من التصالح معها، وفي برنامج إذاعي قبل أيام، سأل المذيع عددا من المتصلين ماذا تفعلون لو أصبحتم حكاما؟ وقد جاءت الإجابات متنوعة، لكن الملفت أن عددا من المتصلين أصروا في بداية إجاباتهم على أنهم لا يرغبون في أن يكونوا قادة، ولو أصبحوا قادة – على مضض- فإن أول إجراء يتخذونه هو تعطيل المؤسسات المدنية والديمقراطية (الشعبية)، وعلى رغم ان المستمع وللوهلة الأولى يستغرب مثل هذا الطرح، لكني اعتقد أن الإجابة الأولى تؤدي بالضرورة إلى الإجابة الثانية، فالشخص الذي لا يستطيع نظرا للثقافة التي يحملها أن يعبر عن رغبته الطبيعية في تبوأ موقع قيادي، وهو يتمنى ذلك فعلا، فإنه بالتأكيد سيقف كسيف قاطع ضد المؤسسات الديمقراطية كي لا تنازعه حكمه، لأن مواقع النفوذ في نظره هي مكسب فاسد، ولا تستقيم مصالح الفساد بالصلاح بل بالقوة والعنف والفساد.
ولو سأل المذيع ذاته أي مسؤول عربي عن رغبته في الموقع الذي يحتله الآن، لأبدى له عزوفه عن المنصب لولا ضغط الناس ورغبة الجماهير، وهو يعتقد بأن قبوله بهذا المنصب يجعله أقرب إلى الشهيد الذي يضحي بنفسه ووقته وجهده لصالح الناس!! ولذلك فإن أمثال هؤلاء عندما يتقدمون على رقاب الناس ومصالحهم، لا يستطيعون أن ينسجموا مع مصالح الناس ولا أن يحققوا رغباتهم. وفي الوقت الذي ينتقل المسؤول أو الحاكم في أوروبّا من قصر الرئاسة إلى شقّة متواضعة، مكتفياً براتبه التقاعدي أو العمل كمستشار عند مؤسسة او جهة علمية أو اقتصادية، فإن المسئول وصاحب النفوذ في العالم العربي لا يكاد يبعده عن كرسيه سوى الموت، ولذلك نحتاج في العادة إلى جهد كبير للحصول على استثناء لمسؤول أو قائد عربي تنحى عن موقعه بملء إرادته في العالم العربي.
ولذلك أميل إلى إدانة الثقافة السائدة في الوطن العربي التي حوّلت المناصب القيادية في دولنا من الخدمة العمومية باعتبارها مسؤولية يقوم عليها هذا الفرد أو ذاك لفترة من الزمن وحسب كفاءته وإمكاناته، إلى مكسب شخصي يستهدف تحقيق أكبر قدر من العوائد المالية أو السياسية، وهي ثقافة ترسخت بفعل عشرات السنين من سلوك الاستئثار والمنفعة الخاصة، إنها باختصار ثقافة جبانة لا تستطيع أن تعبر عن غاياتها قبل أن تصل، لكنها وبمجرد بلوغ الهدف تبدء بالظهور والتوغل على حساب البلاد والعباد.
Post a Comment