موسيقيو الجيل الحالي.. لا للقيود وداعاً للتعقيد وأهلاً بالحرية والبساطة

الحفلة التي أحيتها فرقة «إيه سي جاي دبليو» الموسيقية الشابة في إحدى ليالي ديسمبر في نادي «لو بواسون روج» في قرية غرينتش، وهو نادٍ مخصص لكافة أنواع الموسيقى المعاصرة، كانت من أكثر الحفلات الموسيقية خروجاً على المبادئ المتفق عليها. وكانت الفرقة تهدف من وراء ذلك إلى إضفاء صبغة من الروك على الموسيقى الكلاسيكية المعاصِرة.

الجانب الأكثر إثارة للانتباه في تلك الحفلة، تمثّل في الخلط بين عددٍ من الأعمال دون الأخذ في الاعتبار المعايير والأصول المتبعة.

فقد قفز العازفون من العمل التجريبي الحداثوي «دائرة البروج» لستوكهاوزن إلى عمل أوبرالي جديد ومفعم بالروك لدانييل بيارناسون، الموسيقي الآيسلندي الشاب والمولع بالحداثة؛ كما انتقلوا من مقطوعة المؤلف الموسيقي ميلتون بابيت «تقاسيم شبه بسيطة»، التي تُعزف على البيانو، وتقوم على تقنية الـ12 نغمة، إلى مقطوعة ماريو دافيدوفسكي «مفارقات رقم 9»، التي تُعزف على الكمان والآلات الإلكترونية، وذلك بشكلٍ لم يراعِ الحدود والقيود والتصنيفات المتعارف عليها.

في السنوات الأخيرة ازداد عدد الفرق والفنانين الشباب الذين أصبحوا يؤدون ضمن حفلاتهم الموسيقية أعمالاً تنتمي إلى شتى معسكرات الموسيقى المعاصرة، وخاصةً إلى معسكرات المؤلفين الموسيقيين الذين دارت فيما بينهم معارك أيديولوجية طاحنة في الماضي، مثل مؤلفي الأعمال الموسيقية الحديثة التي تقوم على تقنية الـ12 نغمةً، ومؤلفي السوناتات والسيمفونيات التي تعتمد على السلمين الموسيقيين الثانوي والرئيسي. لكن فرقة «إيه سي جاي دبليو» بدت أكثر تلك الفرق رمزاً لهذه الموجة الجديدة من الحرية والبساطة والانفلات من القيود. فهؤلاء الموسيقيون لم يكترثوا أبداً بالأيديولوجيات العمياء التي كانت تفرق بين تلك المعسكرات منذ زمن بعيد.

وهكذا فإن الجمهور وجد نفسه خلال تلك الحفلة يتنقل من معزوفة بايبر «سوناتا ربرزنتيفا»، التي أداها عازف الكمان أوين دولبي، وهي موسيقى تستحضر أصوات الحيوانات، مثل سقسقة العصافير ومواء القطط، إلى معزوفة جون ديك «بي بي وولف»، والتي أداها إيفان بريمو على الغيتار الكهربائي المنفرد، والتي كان يرتدي خلالها زي الذئب في محاولةٍ منه لإيصال المونولوج الذي يشكو فيه الذئب من الظلم الذي يتعرض له على أيدي الصيادين بسبب مطاردته لصغار الخنازير.

الرسالة كانت واضحة: هؤلاء الموسيقيون كانوا بكل بساطة يقدمون أعمالاً يعتبرونها عظيمة ورائعة، بغض النظر عن المدرسة الأسلوبية التي تنتمي إليها هذه الأعمال. كما أنه من الطبيعي تماماً أن يعمد عازفو هذه الموسيقى الكلاسيكية، الذين ترعرعوا في عالم متخم بموسيقى البوب، إلى الاستعارة من أي أسلوب أو نوع موسيقي آخر، مثل الجاز والفانك والراب والإلكترونيكا، فالجيل الحالي يتوق لتقديم أي شيء.

مع ذلك لم تكن تلك الحفلة شاملة لكل الأنواع الموسيقية. فالأعمال التي عُزفت خلالها كانت إما لحداثويين غارقين في القيود (مثل ستوكهاوزن وبابيت وبيريو)، أو لمؤلفين شباب متحررين من كافة القيود، وهو ما أسماه العازف غريغ ساندو «الموسيقى الكلاسيكية البديلة» التي تهيمن بقوة في الوقت الحاضر. فقد غاب عن قائمتهم مؤلفو المنطقة الوسطى، إن صح التعبير، أو «مؤلفو النوتات والإيقاعات»، كما أسماهم جون هاربيسون، قاصداً بذلك أولئك الذين يؤلفون المقطوعات الموسيقية من أجل الآلات التقليدية، متجنبين إلى حدٍّ كبير الآلات الإلكترونية، أو أولئك الذين يركزون على تطوير الفكرة الموسيقية أكثر مما يركزون على تطوير الآلة والصوت، مثل ستيفن هارتكه وستيفن ستاكي وجون تاور وكريستوفر راوز وميلندا فاغنر وسيباستيان كورير، وجميعهم من الجيل الذي وُلد في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. ومع أن عدداً من هؤلاء شهد انتشاراً واسعاً وفاز بجوائز «بيوليتزر»، إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه في الوقت الحالي هو: هل بدأوا بالتلاشي من ذاكرة موسيقيي الجيل الجديد ومحبي الموسيقى؟

في سبعينيات القرن الماضي شهدت أروقة كلية الموسيقى بجامعة ييل الأميركية جدالات حادة موجَّهة ضد الموسيقيين التقليديين. وكان العامل الأبرز خلف نشوء تلك الجدالات يتمثل في الأعمال الموسيقية التي ألفها موسيقيو ما بعد الحرب العالمية الثانية، والذين كانوا يعتقدون أن الموسيقى تطورت بشكلٍ أدى إلى إحراق جميع خطوط العودة إلى الوراء، وأن أنظمة التأليف الموسيقي القائمة على تقنية الـ12 نغمة تمثل لغة المستقبل الوحيدة القابلة للحياة والاستمرار. لكن في أوائل السبعينيات بدأ الجيل الجديد يتبلور ويستقطب موالين له. أما التقليديون، الذين ظلوا متمسكين بنغمات السلم الموسيقي، فقد تم التعامل معهم كما لو أنهم مستحاثات.

ظهور تقنية الـ12 نغمة كان ولايزال أحد أهم التطورات التي شهدتها الموسيقى في القرن العشرين. لكن المشكلة لم تكن تكمن في هذه التقنية، بل في القيود التي فُرضت من خلالها، والتي تقوم على فكرة أن الموسيقى، بوصفها شكلاً فنياً، يجب أن تتطور خطوةً خطوة.

لم يتمكن أي معسكر من حسم المعركة، ولذلك مع مرور الوقت تبددت العداوات والاصطفافات، وحل مكانها القبول بتنوع الأساليب الموسيقية. لكن ما الذي حدث لموسيقيي المنطقة الوسطى؟

من المؤلم التفكير بحجم التهميش الذي بدأ يحيط بمؤلف موسيقي كبير من طراز سامويل باربر في الوقت الحالي، ولاسيما في هذه السنة التي سيتم الاحتفال خلالها بمئويته. فقد كان باربر على طرفي نقيض مع بابيت، الذي كان ينظر إلى التأليف الموسيقي من منظور علمي بحت، حيث لم يكن يتوقع بأن الجمهور سيفهم ما كان يسعى إليه هو وزملاؤه. أما باربر فكان يقول بضرورة وجود تواصل بين الموسيقيين والجمهور.

ثمة ما يدعو للقول: إن التاريخ يعيد نفسه. فهل يقوم الجيل الشاب حالياً بتهميش موسيقيي الوسط وإخراجهم من الساحة؟ على أي حال يبدو من المنطقي أن يستولي الحداثويون المتطرفون، من أمثال تشارلز وورينن، على عقول وقلوب العازفين الشباب الموهوبين والمنفتحين. ففي كتابه «التأليف الموسيقي البسيط»، الذي نُشر العام 1979، أعلن وورينن (71 عاماً) بأنه «في الوقت الذي لايزال نظام السلم الموسيقي التقليدي معتمداً ضمن الموسيقى الشعبية الدارجة، ومستخدماً أيضاً من قبل الموسيقيين ذوي التوجه الماضوي المحافظ، نجد أن موسيقيي الجيل الحالي قاموا باستبداله بنظام الـ12 نغمة»، علماً أنه ثبت خطأ هذا الإعلان منذ وقت طويل. لكن في الفترة الراهنة، التي تُعتبر فترة الانفلات من القيود، بدأت أعمال وورينن الموغلة في تمسكها بالقيود بالاستحواذ على العقول، كما أخذت تشكل تحدياً بالنسبة للجيل الحالي من الموسيقيين الذين لم يسبق لهم أن اطلعوا على كتابه المذكور.

وقد تمكن الموسيقيون الذين يقومون بالدمج بين التقاليد الموسيقية العالمية وبعض المكونات العصرية في موسيقى البوب والموسيقى الكلاسيكية، مثل تان دون وأوزفالدو غوليجوف، من تأسيس موجة مميزة، كما حازوا على بعض المعجبين بين الشباب. إلى جانب الشعبية والإعجاب اللذين يحظى بهما الموسيقيون الذين وُلدوا في فترة ما بعد الحرب العاملية الثانية، مثل جون آدمز، ثمة خشية من أن الأعمال الكلاسيكية المميزة، مثل رباعيات هاربيسون الوترية، قد تختفي شيئاً فشيئاً من الساحة الموسيقية. لكن لحسن الحظ يبدو أنها مجرد خشية عابرة؛ فالأمر الأهم والذي لا يقبل الجدال يتمثل في أننا دخلنا حقبة زوال الحدود والقيود، حيث تبنى الجيل الجديد من العازفين والموسيقيين قضية تعزيز وتأصيل التعددية وإنقاذ الموسيقى الكلاسيكية من نفسها.

No comments

Powered by Blogger.