في الصيف الحار، وحين تكون في إجازة ولا توجد فرصة للسفر، فإنك غالبا ما تصحو متأخرا بعد سهرة مع الكتابة، وتزداد المشكلة حين تستيقظ في الظهيرة وتجد أمامك ورقة كتبت فيها بعض الطلبات الواجب إنجازها فورا، لتثبت أنك أب أسرة مثالي، فتنهض على عجل وتنطلق بسيارتك بعد أن تناولت شيئا خفيفا، يكون غالبا نصف كوب من الحليب، من أجل تسليك المعدة وتهيئة فمك لأي حديث مقبل.
وفي الشارع تشاهد ما يفعله الطقس الحار بالناس: سيارة تقف على جانب الطريق وغطاء المحرك مفتوح وصاحبها غارق في الحيرة والتلفت وانتزاع الأكسجين من الهواء، عمال يتصبب العرق من جباههم يعبرون الشارع، رجل للتو أدار محرك سيارته الواقفة يرفع يده في كل مرة عن المقود لاتقاء لسعاته الحارة، صديق يحدثك في الهاتف يتخلل صوته اللهاث، وترى أشخاصا أمام بقالة بينهم مشادة كلامية، أشعة الشمس الحارقة تسقط على وجوههم مباشرة، وعلى الأشياء المحيطة بهم، وتنعكس بقوة إلى عينيك فتؤجج مشاعرك وتدفعك -كما هم والآخرين- إلى الانفعال والهياج والغضب حتى مع الأمور البسيطة.
فكنت أنظر إلى ورقة الطلبات فأشعر بالغيظ والتوتر، ويزيد الأمر سوءا حين أفكر بقلة فرص الكتابة في النهار، وفي هذه اللحظة تذكرت قصة الكاتب الإيطالي البرتو مورافيا «دعابات الطقس الحار» وقلت في نفسي «إنه لا يلام»، وبعد أن أخذت الشمس المتوهجة بالحرارة نصيبها مني، عدت إلى المنزل جالبا معي الطلبات كلها، لكني وصلت بفعل الجو القائظ إلى مرحلة يصعب الرجوع عنها، وهي الاستعداد الكامل للدخول في أي «خناقة» بلا سبب..
وفي المنزل بعدما أنزلت الطلبات من السيارة بغضب حتى إني نهرت الخادمة لأنها بطيئة، دخلت إلى الصالة عابس الوجه، وجمعت زوجتي وأولادي وقلت لهم عبارة البرتو مورافيا في قصته تلك مع الإحساس بأن صوتي خالطه شيء من الزئير: «اسمعوا جيدا إلى ما سأقوله لكم: لقد سئمتكم جميعا»، وكانت زوجتي ومن يفهم من الأولاد ينظرون إلي بدهشة، ثم أكملت على طريقتي: «لقد صار لي أيام لم أكتب شيئا بسببكم»، وكان باب الصالة المفتوح يدخل لفحات حارة من الهواء تشجعني في الثبات على موقفي، فوجهت كلامي إلى زوجتي العزيزة قائلا: «ابنك هذا يجمع ألعابه قربي ويمرر سياراته الصغيرة على ساعدي أو فخذي، وابنك ذاك في كل مرة ينزل من السلم ويطلب إلي حل مشكلة في الكمبيوتر، أما ابنتك هذه، ففي كل مرة تطلب أن آخذها إلى البقالة، وابنتك تلك تريد دائما أن أساعدها في رسم لوحة، ولم يبق إلا أن أرسم بدلا منها، أما هذه الصغيرة (وكان عمرها أقل من سنة)، فكلما رأتني ابتسمت وجاءتني تحبو بأقصى سرعة، حتى أنتِ، انظري إلى ملامحك المصدومة، وكأن ما أقوله لا يعجبك، والآن.. لمي أغراضك واجمعي أولادك لآخذكم إلى بيت أهلك، فما هذه الأسرة التي أدى كل فرد فيها دوره في إشغالي عن الكتابة، وليكن في علمكم جميعا أنني سوف أخرج في هذه الظهيرة ولن أعود حتى منتصف الليل».. ثم أخذتهم وانطلقت بالسيارة أضرب المطبات، وكانوا صامتين ومستغربين، بينما كنت مقطب الوجه حتى أوصلتهم إلى منزل أخوالهم.
Post a Comment