مارسياس.. وغضب الآلهة

يقال إن صوت القيثارة كان للرقص والطرب، مثل صوت الناي، ولكن فيما بعد صار حزيناً. وصار الحزن يقطر من صوت القيثارة والناي حتى في مناسبات الفرح وأغاني الزفاف. ولهذا قصة غريبة وطريفة. إنها قصة مارسياس والرب المشهور أبوللو. هذه القصة تعكس لنا علاقة الآلهة بالبشر، أو القوي بالضعيف. والمعادلة معروفة سلفاً، فالضنك والعذاب والضنى من حظ البشر، الجانب الضعيف، والهيمنة والثروة والتسلط من حظ الآلهة، الجانب القوي.

مارسياس راعٍ مثل بقية الرعاة يطوف الغابات. ومن عادة الرعيان أن يتفاهموا مع قطعانهم بالصفير أو التصفيق أو الناي. والناي، التي تصنع من القصب فقط، من اختراع الرعاة، ويقال إن مارسياس هو الذي اخترعها، فقد وجد قصبة طويلة ففتح مجراها وثقب ظهرها ستة ثقوب، وصار يخاطب بها القطيع، فيتفاهم الطرفان بصوت الناي من غير حاجة إلى التصفيق والصفير ورشق الحجارة على القطيع.

وفي أحد الأيام مرت امرأة حزينة باكية، تندب حظها لأن زوجها مات. وكان معها مجموعة من المرافقين والمرافقات والمنشدين والمنشدات وحاملات القرابين وحاملات الطيب وضاربات الصنوج. كان موكباً رثائياً كبيراً. ولاحظ مارسياس أن الحزانى لا يذرفون الدمع، كأن الحزن لم يلامس قلوبهم.
لم يأبه بهم أول الأمر، ولكن لما رأى الزوجة الحزينة شعر أن قلبه راح ينفطر، فرافق المؤتمين وهو يعزف على شبابته.

لكنه بهذه الناي البسيطة كبساطته وبساطة غاباته جعل الجمع الغفير يذوب حزناً ويذرف الدموع. ولما رأى الدموع ذرفت بحق، لاحظ أن الناس ارتاحت قليلاً، فخفف من نغمة الحزن، وبدأ الرقص يرافق الموكب. وعندما دخلوا مقاطعة فريجيا استقبلهم ملكها ميداس، صاحب اللمسة الذهبية المشهورة، وحزن مع الحزانى وبكى مع الباكين، فقد تأثر كثيراً بعزف الناي. وبصورة عفوية، كبقية أعماله وأقواله، صرح بأن مارسياس يعزف على الناي أفضل مما يعزف أبوللو على القيثارة.

والقيثارة من ابتكار هرمس. علم أبوللو اللعب عليها. وبعد التمرينات الشاقة صار أبوللو من المتقنين للعزف، وبعد طول المراس رأى أن يضيف وتراً رابعاً على أوتارها الثلاثة، فجعلها أشبه بأعجوبة لما لها من صوت بديع ساحر.

سمع أبوللو بمارسياس وتعلق الناس به وبعزفه، فأكلته الغيرة، فطلبه إلى مباراة علنية يكون التحكيم فيها بالتصويت، والفائز يفعل ما يريد بالخاسر. وقبل مارسياس، فاستدعى أبوللو ربات الفنون ليحكمن بينهما، فلما سمعت ربات الفنون عزف مارسياس دهشن كيف يمكن لإنسان أن يصل إلى هذا المستوى من الإبداع، الذي
لا يكاد يصله الآلهة أنفسهم.
امتنعت ربات الفنون عن التصويت، وقلن لأبوللو إنهن لم يميّزن جيداً بينهما والأجدى أن يكون التحكيم من البشر أنفسهم. فجمع أبوللو حشداً من البشر ومنهم ميداس، الملك الذي عاقبه أبوللو بجعل أذنيه تشبهان أذني حمار لأنه وقف ضده، كبقية الناس، وأصرّ على أن مارسياس أفضل عزفاً من أبوللو.

فلما رأى أبوللو أنه في الحالين مدحور قال لمارسياس: المباراة لم تنته بعد، يجب على العازف أن يقلب آلته ثم يعزف ويغني معاً. طبعاً استطاع أبوللو أن يقلب آلته، القيثارة، فيضرب على أوتارها ويرافق عزفه بالغناء. لكن كيف يستطيع مارسياس أن يعزف (ينفخ بفمه) من أسفل الناي ويغني في الوقت نفسه؟ احتج الرجل أول الأمر صارخاً أن الغرضين مستحيلان معاً، لكنه أخيراً استسلم وأعلن أنه لا يستطيع العزف والغناء في آن، فأعلن تمولوس (والد أمفالي عشيقة هرقل) فوز الإله وأنه يحق له أن يفعل بالمدحور ما يشاء، حسب الشرط الذي قبل به الطرفان. فأخذه أبوللو بعيداً وعلقه على شجرة صنوبر وسلخه حياً، وعاد مسروراً متباهياً بانتصاره.

بحث أنصار مارسياس من الرعيان والأصدقاء عن مكان تنفيذ الشرط فوجدوه. وبات مشهوراً بعد ذلك، إذ من الدم المتساقط من جسد مرسياس نبتت أجمة من القصب الذي لا يزال منه تصنع المزامير بشتى صنوفها. ومن القصب صنع رفاقه مزاميرهم ونفخوا فيها لحناً شجياً، وتساقطت دموعهم غزيرة على فقيدهم، ويقال إن القصب نفسه شارك في البكاء. ومن هذه الدموع انساب نهر سموه مارسياس، غير معروف المنبع، فهو يبدأ من أجمة القصب فقط، من دون أي أثر لينابيع أو روافد.

يقال إن أصدقاءه أنفسهم تحوّلوا إلى قصب تنزّ مسامه ماء، بعد أن أيقنوا أنه لا وجود لعدالة بوجود آلهة يدفع البشر لهم ثمن جشعهم وحقدهم!!

عالم اليوم لا يختلف عن عالم الأمس، فآلهته يرمون الخصم بالمعاجز، فيعجز، فيسلخونه حياً، ولا مانع لديهم من أن يبكيه الأصدقاء، بل لا مانع حتى من شتم الآلهة أنفسهم، ما داموا حققوا رغبتهم. فإذا قال لك آلهة اليوم أنت تملك أسلحة دمار شامل، فمن العبث أن تقنعهم بغير ذلك، بل قد يتهمونك على النيّة فيقولون بأنك «تنوي» أن تصنع الأسلحة الذرية أو تمتلكها، وترجمة كلامهم أنهم يريدون سلخك حياً أنت بذاتك، وليس الأسلحة الكيميائية ولا الذرية، وهم أعرف من غيرهم بقدرة الدول ومراميها. فلتصمت ولتمت بهدوء، كما مات مارسياس.

ومن الضروري أن نشير إلى أن آلهة اليوم يطلقون على مصلحتهم اسم «الضرورة الكونية»، أو «المصلحة العالمية»... وهي تسمية تتناسب وحجم المسلوخ.. فالمعلق من قدميه على شجرة صنوبر ليس أوديب ولا مارسياس... بل العالم كله، ويكون السلخ على من جرى الاتفاق عليه «خدمة» للمصلحة الكونية والسلام العالمي.. ومن أجل عالم بلا حروب... إلى آخر الشعارات التي تسبق السلخ.

وباسم الضرورة أبادوا شعباً وأذلوا شعوباً.

لكن لا بد أن نشير إلى فرق كبير بين آلهة الأمس وآلهة اليوم، وهو الندم الذي كان يصيب آلهة الأمس بعد كل افتراء.. فأبوللو بعدما شاهد الدم والقصب ونهر الدموع، وكيف أطلق الناس على النهر اسم مارسياس، وليس أبوللو، ندم على ما فعل، ورأى أنه لا يجوز للإله أن يوزع التهم جزافاً، فيكرهه البشر، وما كان منه إلا أن حطم قيثارته. إلا أن الناس عادوا وصنعوا القيثارة، فاكتشف لينوس الوتر الأوسط الذي صار يضرب بالإبهام، واكتشف أورفيوس وتاميرس الأوتار الثلاثة الباقية، ولكن ظل صوت القيثارة حزيناً يحمل إلينا ندم أبوللو على فعلته.
في عالمنا الحالي لا تندم الآلهة، ولا نسمع من قيثارتهم سوى صوت الدم، لا صوت الندم!!

No comments

Powered by Blogger.