الوشم والأدب من الرمزية العامة إلى التزيين التشكيلي


منذ البداية ارتبط الوشم بالرمزية الاجتماعية المرتبطة به وفق الطقوس والتقاليد العامة التي كانت العشائر والقبائل البدائية تحرص عليها، والتي من خلالها تبثّ رسائلها التواصلية بين مختلف أفراد العشيرة المتجانسة أو القبيلة المنطوية تحت لواء سلطة واحدة متكاملة الرؤية ومتوحدة الأهداف العامة والمرامي المقصودة. من هنا فقد كان الوشم علامة سيميائية ذات أبعاد دلالية محدّدة يمكن للآخر المتلقي لها أن يقرأها وأن يفك رموزها بسهولة، ما يساعده على احترام بنية التقاليد العامة التي تحكم العالم القيميّ الذي أُنتجت فيه. فالمرأة المتزوجة كانت تشم ذقنها بخط يوضح أنها لم تعد بكراً وأنها قد أصبحت في عصمة رجل. وهي علامة تفرض على الآخرين احترامها والابتعاد عن مجالها، في حين كانت العذراء خالية من هذه العلامة الوشمية. 
وفي المقابل كان الرجل يقوم بوشم جسده دلالة على القوة في غالبية الأحيان، خصوصاً حين يرسم صورة أسد أو ثعبان أو نسر أو ما شابه ذلك أو قاربه. ذلك أن الوشم باعتباره كتابة تحفر علاماتها الأيقونية بالإبر، يبقى كما قال المفكر المغربي عبد الكبير الخطيبي في كتابه «الاسم العربي الجريح»: «علامة رمز - صورية». وبما أنه كذلك فهو محمّل بمعانٍ ودلالات ارتبطت بالسياق الذي أنتج فيه وبالثقافة العامة التي ولد فيها. وقد تم استعماله من لدن المرأة كثيراً، إذ من النادر جدا في الثقافات العريقة ألا تجد جسد المرأة وقد تم تزيينه بوشوم ذات دلالات اجتماعية ترتبط في غالبيتها بالمجال الجنساني للمرأة بالمعنى الثقافي للكلمة، وبوضعيتها الخاصة في هذا المجال، وبمدى علاقتها الجنسانية، الخطوبة والزواج، مع الرجل الراغب فيها.
وقد استطاع الوشم أن يحافظ على حضوره القوي في مختلف الحضارات القديمة، بل تعداها إلى حضارة اليوم حيث أصبح يُستعمل كثيراً في عملية التزيين، وان تخلّى عن حضوره الدائم والمحفور بشكل نهائي على/ في الجسد، بحيث أصبح وقتيّاً، أو مرتبطاً بظرف احتفالي معين، كما أن عملية كتابته على الجسد لم تعد كما كانت في السابق تتم بالإبر، وإنما أصبح يعتمد على طريقة اللصق النسخي الذي يزول بمجرد انقضاء بضعة أيام على وضعه، ولم يعد يُكتب بالإبر أو بالحديد على الجسد، بغية تركيز العبر التي كانت سبباً في كتابته.

لقد حضر الوشم في الأدب بكثرة، فالذي قرأ كتاب «ألف ليلة وليلة» يلاحظ أنه غالباً ما كانت تنتهي حكاياته بقولة أحد شخوصه: «إن حكايتي هاته، يجب أن تكتب بالإبر على آماق البصر حتى تكون عبرة لمن اعتبر»، والوشم حاضر هنا ولو على سبيل التمني، وقد بيّن ذلك ببيان رائع الكاتب المغربي عبد الفتاح كيليطو في كتابه الجميل «العين والإبرة» الذي تناول فيه بالقراءة التأويلية الفاتنة هذا الكتاب العربي السحري. كما حضر الوشم حكاية وتأويلاً في رواية المفكر المغربي عبد الكبير الخطيبي الحاملة لهذا العنوان الشديد الدلالة «الذاكرة الموشومة»، وحضر أيضاً في رواية الكاتب العراقي عبد الرحمن مجيد الربيعي التي حملت عنوان «الوشم» بكل دلالته العميقة. أما في الأدب الغربي فقد احتل الوشم في حد ذاته كفعل حقيقي ورمزي حضوراً قوياً في رواية «الفراشة» للكاتب السجين السابق هنري شاريير، الذي قام بمعية أحد السجناء بوشم صورة «الفراشة» على جسده توقاً للحرية المشتهاة . وهو رمز سيظل حياً طيلة زمن الرواية، وبعدها الفيلم الشهير الذي أُخذ عنها وجسّد دوره الرئيسي الممثل الأميركي العملاق ستيف ماكوين.

هكذا امتد الوشم عميقاً في ثنايا الحضارة الإنسانية، وهكذا تحوّل من فعل حقيقي مرسوم على جسد الإنسان الذكوري منه والأنثوي إلى فعل رمزي بامتياز، وإلى شفرة تزيينية تطلب من الناظرين إليها فكّ خيوطها والوصول إلى الرسالة المنطوية تحتها. وهكذا تحول أيضاً من فعل جماعي اجتماعي عام، تفرضه قوانين وسنن الجماعة، إلى فعل اختياري تزييني في الغالب، الغرض منه الاحتفال بجمال الجسد والتعبير عن حضوره الحقيقي والرمزي معاً

No comments

Powered by Blogger.