الملائكة لا تحمل الأسلحة

صلاح دبشة
من المعلومات الجميلة التي كنا نتداولها صغارا هي معرفة عواصم الدول، وكنت أحفظ عن ظهر قلب مجموعة من العواصم، من بينها بيروت عاصمة لبنان، التي بمجرد أن أنطقها تجتاح مخيلتي صور الدمار، بناية تخترقها قذيفة، رصاص، انفجارات، اغتيالات، ميليشيا عسكرية، كنت أقرأ لجبران خليل جبران واستمتع بكتاباته، وكان من 
بين الأدباء الذين يجعلونني أفوِّت مباراة في كرة القدم مع الأصدقاء، وأغض النظر عن كتابة واجب مدرسي متحملا بذلك مواجهة معلم شرس في تلك الأيام، الذي صرخ فيَّ ذات مرة : «لماذا لم تحل الواجب؟». فأجبته : «كنت أقرأ كتاب النبي لجبران خليل جبران!»، فما كان منه إلا أن طردني، لأنني مستهتر لم أبحث عن معنى كلمة (قناعس) ولم أكتب معنى بيتي عنترة:

ولما تجاذبنا السيوف وأفرغت

ثياب المنايا كنت أول لابس

ورمحي إذا ما اهتز يوم كريهة

تخر له كل الأسود القناعس

خرجت وفي رأسي أطفال يبكون، خرائب، نسوة ثكالى، حرائق، ضحايا وقتلى، ورأيت في آخر الممر مشرف الجناح وفي يده عصا ملفوفة بشريط لاصق أحمر، وكان صوت فيروز يوازن مشيتي بين الحفر والشظايا المتناثرة، أراه ينقذ الجرحى ويخفف من البكاء، وصلت فأشار بعصاه أن أجلس بجانب باب الغرفة حتى نهاية الحصة، كنت كطالب أعرف الشيء الكثير عن السياسة العربية حيث أتحفنا بها المعلمون من كل اتجاه وخصوصا فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية والسياسة المصرية وصدام حسين، وكنت أسأل نفسي هل يأتون بأقوالهم من الصحافة؟ وإن كان كذلك فالصحافة أيضا ملأى بأخبار لبنان !

جلست بين أشلاء مترامية، ونحيب يأتي من أماكن متفرقة، منتظرا ما يأتي به المعلم من ادعاءات إضافية كعادته، تأملت البلاطات وسرحت في فكرة أن أتجاوز بخطواتي بلاطة وأحط على أخرى، شردت بعيدا فوجدت نفسي قد قطعت مسافات طويلة، أمر بالشوارع العربية لأعثر على لبنان، من شارع وراءه اختلاس، إلى شارع بداخله عبوة ناسفة، إلى آخر فوقه جوع، وجدتها كلها تنتهي بالرمل، قبضت على حفنة منه ورميتها أمامي فتطاير الغبار، بدأت أتسلقه حتى صعدت إلى قمته، ومعي من مغارة جعيتا ريشة ومن سهل البقاع ريشة ومن الجنوب ريشة، فرحت أخفق في الهواء، ارتفعت في ظلمة دامسة، وكان أن لمحت في الأعالي أمين نخلة يهفهف في «مأتم الورد» ومن ورائه سعيد عقل يقرع «أجراس الياسمين» كنت أقوم بانعطافات حادة تحاشيا للدموع بين «الناي والريح» فأرى خليل حاوي يوشك أن ينتحر، وأنسي الحاج بين فوهات البنادق يشير إلى «الرأس المقطوع» وخلفه شوقي أبي شقرا وهو يحمل «أكياس الفقراء»، نظرت في «بوصلة الدم» لبول شاوول لأحدد وجهتي فلمحت محمد علي شمس الدين من بعيد وهو يمد يديه بـ « طيور إلى الشمس المرّة». كان جسدي يستجمع الخلاصات الإنسانية فتنبض عروقي بطاقة شعرية متوهجة، أرفرف بها حتى أصل إلى مشارف لبنان، أحاول أن أضرب الفوضى فيه بقبضة من غيم، وقبل أن أفعل ذلك رن الجرس. مرت سنوات كان لبنان فيها سبورة الفصل، كل من أتى دوّن كلمة أو شطب عبارة، من المعلم إلى الطالب حتى معلمي الاحتياط، وكنت دائما أمسح السبورة في نهاية كل حصة، وفي مرة كتبت ( أعطني الناي وغني ) فدخل معلم التربية البدنية التي كنا نسميها الألعاب في ذلك الوقت وسأل : «من كتب ذلك؟» فصمت الجميع من الرهبة، لكني تشجعت وقلت : «جبران خليل جبران» فقال : «ومن يكون؟» قلت : «ألا تعرف أسماء الأحزاب اللبنانية؟» قال : «نعم!» يقصد «بلى!». ومن بعدها وجدت نفسي واقفا في طابور مدرسة أخرى، وأحد الطلاب ينشد في الإذاعة المدرسية قصيدة مقررة في تمظهر آخر للإصرار على غريزة العنف :

تمناني وسابغتي قميصي

كأن قتيرها حدق الجراد

فلو لاقيتني للقيت ليثاً

هصوراً ذا ظباً وشباً حداد

ولاستيقنت أن الموت حق

وصرح شحم قلبك عن سواد

فتراءت لي صورة عباس بيضون يدفعني إلى «نقد الألم»، رحت أتأمل مئات الوجوه من حولي، حركات الأيدي المتداخلة، الطرائق المبعثرة لنقل الأقدام فوق البلاط، وهي تتجه إلى الفصول، كنت أكثر طالب مشتت يمشي في اصطفاف منتظم، وقد قررت أن أملأ جدران هذه المدرسة بـ ( أعطني الناي وغني ) وإن لم أستطع .. فدفتري.

مر عقدان من الزمن اتجهت فيهما إلى «محاولة وصل ضفّتين بصوت» مع وديع سعادة، أُصبِح في أيام «تحت المطرقة» مع يوسف بزي وأُمسي في ليال سائرا بـ «مصباح كفيف» مع سوزان عليوان، كنت أتابع روائع لبنان من جهة وآلامه من جهة أخرى، فيتواصل الجمال بسطوته ويستمر الألم بقوته، مثل حرب رمزية بين الملائكة والشياطين، حرب بلا ميدان، لا تحمل فيها الملائكة أسلحة بل كلمة وروح، تتألق هذه وتشف تلك، كانت الإنسانية الخلاقة تتواصل بين عنف يخبو ويتوهج، تمرر الصبا على قلعة بعلبك، النسيم على حجر الحبلة، والندى على صخرة الروشة، بينما أشجار الأرز تلوح لشيء في الأفق، إنها ثلة تمرن لبنان على الحياة، في مقابل زمرة تدربه على الموت.

كاتب كويتي

No comments

Powered by Blogger.